محمد أودادا
لم يعد الشعري سمة مرتبطة بالنوع الأدبي الذي نسميه القصيدة، بل غدا يتحقق في أنواع أدبية أخرى، وخاصة منها الرواية. وتتعدد مظاهر الحضور الشعري في الكتابة الروائية، وبخاصة في الصنف الجديد منها. فقد نسجت الرواية الجديدة ميثاقا علائقيا مع الكتابة الشعرية فاستعارت طرائقها وتقنياتها إلى درجة يمكن النظر إليها وكأنها نصوص شعرية. أما المستويات التي تبرز فيها شاعرية الرواية الجديدة فتهم لغتها وكذا خطابها، أي تمس المكونات اللفظية والسردية. إن هذا الأمر هو الذي جعل الرواية ملتقى جميع الأنواع الأدبية أو يجعلها كما عبر عن ذلك موريس بلانشو أسعد الأنواع.
يندرج الحضور الشعري في الكتابة الروائية في سياق ما يمتلكه ” الشعري” من طاقة على اختراق مختلف العوالم والمجالات الفنية. فهذا الشعري يحضر في جميع الأنشطة الإنسانية والطبيعية، إذ نقول : الجلسة الشعرية، المناظر الشعرية، الأخلاق الشعرية. إن هذا الأمر هوالذي حذا بجاكوبسون ليؤكد أن قصر الوظيفة الشعرية على الشعر وحده هو تبسيط خادع، وحث على توجيه البحث إلى مختلف الأشكال الفنية والأنواع الأدبية، لأن قيمة الوظيفة الشعرية تستلزم دراسة علاقتها بجميع الأنواع وخاصة الاشتغال الشعري للغة (1).
تأسيسا على هذه الرؤية، نرى أن يتجه الدرس الأدبي ومختلف طرائق التلقي الجديدة إلى خلق شعرية ناجزة لدراسة البعد الشعري في الكتابة الروائية. وفي هذا السياق سنحاول عرض تصور نظري يمكن أن يكون أداة منهجية لرصد هذه الظاهرة والتحقق من أهميتها ووظيفتها الجمالية في النص الروائي الجديد.
لقد شرعنا في محاولة بناء أنموذج نظري لدراسة الشعري في الأعمال الروائية، عندما لاحظنا إغفال نظرية الأدب لهذه العلاقة، بالرغم من تأكيد جل الدارسين على أهميتها وخطورتها في مجال الدراسة الأدبية. فقد صرح جاكبسون بأن نظرية الأدب لم تخفق، فيما عرضت له، أكثر من إخفاقها في تحديد الشعري وطبيعته، بل دعا إلى أهمية البحث عن هذا الشعري في مختلف الأنواع الأدبية الأخرى، لأن ذلك ينسجم وما تدعو إليه نظرية الأنواع نفسها عندما نبهنا إلى أهمية البحث عن العناصر التي تكون العمل الأدبي وبخاصة، تلك التي تشكل خصوصياته الجمالية (2).
إن بناء شعرية ناجزة لدراسة البعد الشعري في الأعمال ذات الطبيعة السردية يستلزم افتراض وحدة الظواهرالأدبية، لذا فالعمل الذي نروم القيام به يستند إلى مختلف > علوم الأدب الحديثة < بما فيها الشعرية والسرديات والسميوطيقا. هكذا سنعمد إلى محاولة خلق حوار بين مختلف هذه التوجهات النقدية ومحاولة استغلال مكامن توحدها في النظر إلى الظاهرة الأدبية، وللإشارة فالعملية التي نريد القيام بها تقوم على مبررات منطقية تستند إلى طبيعة المناهج ذاتها وترتكز على خصوصية الدراسة الأدبية الحديثة . فهذه الأخيرة، وعلى اختلاف أصنافها وارتباط كل واحد بنوع أدبي معين، تتوحد في المنطلق النظري الذي يكمن في البحث عن آليات الوصف العلمي للظاهرة الأدبية. أما أصول هذه الرؤية المنهجية العلمية في الدراسة الأدبية فترجع إلى ما أمدت به اللسانيات مختلف المناهج الحديثة. فقد رفدت اللسانيات هذه المناهج وشكلت مرجعية أساسية لمختلف الشعريات والدراسات السردية الحديثة، بل إنها أمدتها بطرائق تجعل منها مناهج محايثة للعلم.
إن اللسانيات هي التي قدمت أسس التصنيف الذي يعتمده الدارسون للبحث عن الأبعاد الجمالية للظواهر الأدبية. هكذا نجد أن الأسلوبيين يعترفون بكون منهجهم مجرد أحد التوجهات الممكنة لعلم اللسانيات، بل إنهم يعتبرون هذا العلم رافدا يمدهم بالمعرفة الكفيلة بولوج عالم النص الأدبي ومعرفة خصائصه. (3).
علاوة على هذا يعترف للدرس اللساني بكونه قد انتشل الدراسة الأدبية من متاهة التأويل والتفسير البعيدين عن حقيقة الظاهرة الأدبية أو كما عبر تودوروف : > لقد قامت اللسانيات بالنسبة لكثير من الشعريين بدورالوسيط إزاء المنهجية العامة للنشاط العلمي < (4). وانطلاقا من هذه القناعات تأسست لدينا رغبة في الاستئناس بالدرس اللساني وتوظيف اصطلاحاته وطرق تصنيفه لبناء هذا الأنموذج الافتراضي لدراسة الشعري في الكتابة الروائية.
ينطلق تصورنا من اعتبار ” الشعري ” نتيجة للانزياح إذ أن هذا الأخير هو الذي نعتبره المبدأ المولد لكل ما هو شعري. فالرواية الجديدة التي نعتبرها من – زاوية نظرنا- شعرية، هي كذلك لكونها تحقق انزياحا ملحوظا عن الرواية التقليدية الكلاسيكية. ولربما إلى ذلك تعزى تسميتها بـ ” الرواية المضادة “. فهي قد خاضت مغامرة كبيرة لحسابها من خلال البحث عن طرائق جديدة ولغة مخالفة لما هو معروف وهذا ما جعل منها نوعا أدبيا متفردا تمتزج فيه اللغة المتداولة باللغة الشعرية (5). ولهدف استكشاف هذا الطابع الشعري في الكتابة الروائية الجديدة ارتأينا اعتماد التصنيف الذي يقيمه اللسانيون بين مفهوم اللغة ومفهوم الخطاب. فعلى هذين المستويين يمكننا معاينة الحضور الشعري في النص الروائي الجديد.
1- مستوى لغة الرواية
يقصد بمستوى لغة الرواية التمظهر اللفظي للنص الروائي. فعلى هذا المستوى يمكن رصد أول تجليات الشعري، خاصة وأنه المظهرالبارز للنص الأدبي، بل هو أهم المستويات التي تهتم بها الدراسة الأدبية. يتشكل المظهر اللفظي للنص من مجموع العناصر الخاصة بالجملة، ولذلك يعزى وقوف الدرس اللساني عند حدود الجملة، ولم يفلح في تخطي ذلك لبناء نحو النصء أو لسانيات الخطاب. لهذا بقيت جميع محاولات توسيع مدار البحث ليطال الخطاب أسيرة الوجود بالقوة وحلما يراود جل الباحثين والدارسين للأدب. (6) إن الهدف من إيراد هذه الملاحظة هو التنبيه إلى الاختلاف الموجود بين الجملة الشعرية والجملة الروائية. فنقل مفاهيم نقد الشعر – دراسة الجملة لسانيا- إلى مجال النقد الروائي ليس بالأمر الهين، كما لا يمكن التسليم بمماثلة لغة الشعر للغة الروائية. ولقد نبه صاحبا نظرية الأدب إلى تفادي السقوط في هذه المغالطة : > إن علاقة الرواية بالمستوى اللفظي للغة التي تكتب بها، ليست وطيدة مثل علاقة الشعر بهذا المستوى <(7). كما أن تحليل لغة الرواية بطريقة لسانية قد تعلق به بعض المحترزات النظرية كتلك التي نبه إليه باختين عند قوله : > إن تحليل لغة الرواية تحليلا لسانيا تقليديا عمل لا قيمة له، لأن أسلوب الرواية يعلو على اللغة المفردة التي يهتم بها ويتعامل معها عالم اللسانيات التقليدي < (8).
إن تناول الشعري على مستوى لغة الرواية يبرره كون جل الدراسات التي تهتم بدراسته انتهت إلى أن النسبة العليا لتحققه تتم على المستوى اللغوي. كما أن هذه الدراسات أكدت أن الشاعرية يمكن أن ترصد – بشكل ملموس على المستوى اللفظي لأن الوظيفة الشعرية بعيدة عن كل التصورات المتعالية والمثالية. إن أحد مظاهر حداثة النص الروائي الجديد يرتبط بلغة هذا النص. فالروائيون الجدد يتخذون اللغة مجالا لإبراز حداثة رواياتهم، إذ يعمدون إلى تحقيق الانزياح عن القوانين اللغوية المعروفة التي تشكل المعرفة الضمنية لكل مبدع. إنهم يسعون إلى خلق تأليفات وتراكيب لغوية جديدة، مما يضفي على لغتهم طابعا شعريا. بيد أن الانزياح اللغوي الذي تحقق في الرواية لا يمكن الارتقاء به إلى مستوى ما يوجد في لغة الشعر، لأن قانون النوع يفرض الالتزام بحدود معينة، حتى لا يقع تجاوز النوع الروائي إلى النوع الشعري. هكذا يمكن القول بأن شعرنة اللغة الروائية تقف عند حدود تحديث وتطوير النوع الروائي، لا إلى تدميره أو إلغائه كليا. وعليه فإن تصورنا لا يتجه إلى دراسة الخصائص الأسلوبية للغة الروائية بالطريقة التي يقوم بها دارسو الشعر، بل سيقف فقط عند حد استجلاء مظاهر توظيف الروائيين لتقنية كتابة الشعر في لغتهم.
إن الاستناد إلى اللسانيات بهدف دراسة لغة الرواية والكشف عن مظاهر شعريتها يلزمنا باعتماد المستويات، لأن ذلك معهود لدى اللسانيين. هكذا يمكن تفكيك مستويات اللغة إلى ما يلي : – المستوي الصوتي – المستوي المعجمي – المستوي التركيبي – المستوي الدلالي
فدراسة الشعري على مستوى لغة الرواية يمكن أن يتم عبر هذه المستويات. فهذا بنفنيست يصرح قائلا : > إن مفهوم المستوى في تصورنا أمر جوهري في تحديد الإجراء التحليلي، فهو وحده الكفيل بإنصاف الطبيعة التمفصلية للغة < (9).
وهذا المبدأ هو الذي اعتمده الشكلانيون الروس في تمييزهم بين المظهر الصوتي والمظهر التركيبي والمظهر الدلالي للغة، كما أشار إلى ذلك تودوروف في كتاب ” الشعرية “. وهونفس المبدأ الذي اعتمدته جماعة مو البلجيكية مؤكدة أن مشروعها ليس > سوى محاولة لضبط عملية تحويل اللغة لكي تصبح شعرية في المظاهر التالية : المظهر المعجمي والمظهر التركيبي والمظهر الدلالي < (10).
وباعتمادنا لهذه الطريقة في دراسة مستوى لغة الرواية نسمح للدرس النقدي بتحقيق انفتاح على مختلف الشعريات المتخصصة. فعوض اقتصار السرديات على دراسة الرواية، نقوم باستدعاء الشعرية للمساهمة في ملامسة خاصية تشترك فيها الرواية مع الشعر. ولهدف تحقيق انسجام أكبر لهذا التصور نرى أن تستند الدراسة إلى تصور منهجي جاهز وتأكد تحقيقه لنتائج إيجابية في دراسة الظاهرة التي نحن بصددها. هكذا نرى بأن اعتماد أطروحة نظرية ، مثل تلك التي قال بها جان كوهن في كتابه بنية اللغة الشعرية ، يمكن أن يكون مفيدا إلى حد بعيد. ومما يبرر هذا التصور اندراجه في إطار” الشعرية البنيوية ” التي تعتبر أرقى أشكال الشعريات التي تتوق إلى علمنة الدرس الأدبي ، كما أن ” شعرية ” كوهن اجتمعت لها المعطيات للاستفادة من البلاغة الكلاسيكية والمعرفة اللسانية الحديثة ، وبذلك تكون أنضج درس للشعر. كما أنها تحترم ” الشعري” و تتجه للبحث عنه أينما وجد ، لذلك قال بأن ” الشعرية محايثة للشعر ويجب أن يكون هذا مبدأها الأساسي …] لا تتخذ اللغة عامة موضوعا لها بل تقتصر على شكل من أشكالها الخاصة الشكل المشعرن] < (11)
علاوة على هذا نجد أن كوهن نفسه يشعرن دراسة جميع الأشكال الشعرية للغة، فقد استدعى النوع الروائي للتححق من توظيفه للشعري، فخلص إلى أن هناك > وقائع مقنعة بهذ الصدد، فهيگو نفسه يظل محتفظا بنفس المعيار الكمي للجنس في حالتي الكتابة نثرا والكتابة شعرا< (12). وهكذا يمكن القول بأن كوهن قد فطن لأمر اختراق الشعري للنثر عامة. بيد أننا لن نتغافل عن تنبيه ورد عند كوهن مؤداه عدم المغالاة في جعل الروائي شعريا. فقد نبه إلى أن > للشعر طبيعة ملكية : فإما أن يكون وحده صاحب السيادة، وإلا فإنه يتنازل عنها نهائيا > (13). بهذا يمكن أن نستفيد من أطروحة كوهن، لأنها تبحث عن ” الشعري” حيثما وجد، وبما أننا لامسنا وجوده في الرواية الجديدة، فذاك يقوم دليلا لاعتمادها.
2- مستوى خطاب الرواية
يستند مفهوم تحديد الخطاب إلى علم اللسانيات. فبعد النجاح الذي تحقق على مستوى الجملة، تشكلت لدى اللسانيين رغبة كبيرة في تجاوز هذا الحد وصياغة تصورات تمكن من دراسة الخطاب باعتباره وحدة كبرى قابلة للوصف النحوي. فالخطاب لديهم > ملفوظ طويل أو متوالية من الجمل تكون مجموعة منغلقة يمكن من خلالها معاينة بنية سلسلة من العناصر < (14). ويبرز بنفنيست الفرق بين الجملة والخطاب بطريقة أوضح عندما يقول : > نستنتج أننا عندما نتجاوز حدود الجملة نكون قد غادرنا مجال اللغة كنظام للعلامات، وولجنا مجالا آخر حيث اللغة أداة للتواصل نعبر عنه بواسطة الخطاب<(15). ولإن كان الخطاب قابلا للدراسة لسانيا على غرارالجملة، فإن كليهما له درسه الخاص، لأن الخطاب يستلزم آلية مركبة أكثر مما هو الأمر بالنسبة للجملة. وبهذا الصدد يقول بنفنيست دائما : > نكون إزاء حقلين متباينين بالرغم من أنهما يتغيآن حقيقة واحدة. وهو ما يدعو إلى إنشاء درسين لسانيين مختلفين < (16). وإجمالا فإن هناك فرقا بين الجملة والخطاب، يتمثل كما ورد في أحد المعاجم المتخصصة في > أن الخطاب وحدة توازي الجملة أو تفوقها (…) أي أنه كل ملفوظ يتجاوز الجملة < (17). وانطلاقا من هذا التمييز بين الجملة والخطاب يمكننا الآن أن نتساءل ما المقصود بالخطاب؟
نسجل بدءا أن دارسي السرد قد اهتموا جميعا بتحديد مفهوم الخطاب لكن تحديداتهم اتسمت بنوع من التعميم، لكونها تتحدث عن مطلق خطاب حكائي أو سردي، ولم تعرض للخطاب الروائي. ويرتبط هذا الأمر بكون علماء السرد يسعون إلى عرض أطروحات نظرية قابلة لدراسة الحكي عامة، ولم يهتموا بالاختلافات التي تقوم بين أصناف هذا الحكي. لهذا نجد بأن أول محاولة لتحديد الخطاب في مجال السرد/الحكي عامة قد وردت لدى الشكلانيين الروس. فقد انطلقوا من التمييز بين الحكاية fable والموضوع sujet، بغية الوصول إلى ضبط موقع الخطاب بينهما. وهكذا انتهوا إلى أن الخطاب يقع على مستوى الموضوع، أي ما يطلقون عليه المبنى الحكائي الذي يمكن من خلاله للقارئ أن يتعرف على ما وقع فعلا. بهذا ننتهي إلى أن الخطاب لدى الشكلانيين هو البناء الفني والجمالي لعمل الأدبي. وتجدر الإشارة إلى أن دراسة المبنى الحكائي لها أهمية قصوى لذلك أكد تودوروف أن الخطاب يقصد به الكيفية التي يتم بها نقل القصة بفعل سارد يحكي أمام قارئ يدرك هذا الحكي، وبالتالي فلا أهمية للقصة. أما الأهم فهو الكيفية التي يطلعنا بها السارد على الأحداث أي الخطاب (18). كما يجدر بنا أن نشير كذلك إلى أن تصنيفات السرديين بين مستوى القصة/الحكاية والخطاب/الحكي، تستند إلى التصنيف المعتمد في مجال اللسانيات. فهذا جيرارجونيت يعتمد تمييز بنفنيست بين القصة والخطاب، محتفظا بمصطلحاته، يقول : > نحن أمام قسمة جديدة ذات سعة كبيرة جدا، ما دامت تقسم جماع ما ندعوه اليوم أدبا إلى قسمين أساسيين متساويين وذلك بطريقة ملموسة. هذه القسمة تشبه إلى حد تمييز اللسانيين بين الحكي (أوالقصة ) والخطاب < (19).
بيد أن أبرز تصور نظري/مشروع هم دراسة السرد، وتناول مكون الخطاب السردي عامة بنوع من الدقة والشمولية هو ذاك الذي قدمه رولان بارث في دراسته الشيقة ” مدخل إلى التحليل البنيوي للسرد “. فهذه الدراسة تكتسي أهمية بالغة في تاريخ السرديات الحديثة، لأنها أحاطت نفسها بهالة من العلمية والدقة في فهم مستوى الخطاب. ومثلما أوردنا ضرورة الاستناد إلى منجز نظري عند دراسة الشعري على مستوى اللغة، فإننا نرى نفس الرأي لدراسة الشعري على مستوى الخطاب. وتمثل الدراسة المومإ إليها أبرز تصور يمكن أن يفيد في ذلك، فهي تهدف إلى بناء تصور متناسق، كما أنها تعتبر من الاجتهادات الهادفة إلى تأسيس لسانيات الخطاب، مقابل لسانيات الجملة، لذا فإن بارث يطلق على مشروعه ” لسانيات الخطاب الجديدة ” من خلاله يحاول تطويع الأدوات المنهجية التي نمت في الحقل اللساني لتصبح قابلة للتوظيف في مجال الأدب عامة. (20)
يميز بارث بين ثلاثة مستويات للحكي هي : الوظائف والأفعال والسرد، وبالرغم من أن مستوى الوظائف والأفعال ينتميان إلى مستوى القصة ويتداخلان فيما بينهما كثيرا – حسب تودرورف- ومستوى السرد ينتمي إلى مستوى الخطاب، لأنه يتصل بطريقة الحكي، فإن بارث يقترح – منهجيا- دراسة كل هذه المستويات في ترابطها ووفقا لنظام الإدماج المتصاعد. إن هذا هو ما سيجعل هذه المكونات تندرج في إطارالخطاب. ويشترط بارث لكي تتم دراسة هذه المستويات بنوع من الدقة أن تنفتح على مختلف الاجتهادات النظرية السردية. فعلى مستوى الوظائف يمكن الاستئناس بدراسة بروب وبريموند. أما على مستوى الأفعال/الشخصيات فهناك إمكانية كبيرة للاستفادة من السميائيات السردية ( گريماص). ومن تصنيف هامون (…) وعند دراسة مستوى السرد يمكن اعتماد أطروحات نظرية كثيرة ( تودروف ، جونيت ). وبالرغم من أهمية هذه المبادئ المنهجية وإمكانية الاستفادة منها في دراسة “الشعري ” في الكتابة الروائية فإنها تبقى ذات طبيعة استنباطة، تقوم على نماذج مؤسسة أكسيوماتكيا منطلقها نظري وافتراضي فقط، أي أنها كما قال بول ريكور قابلة للتعديل والتطوير ( 21).
3- مستوى اللغة ومستوى الخطاب في الرواية الجديدة
سلفت الإشارة إلى أن الكتابة الروائية الجديدة نسجت ميثاقا علائقيا مع الكتابة الشعرية، كما سلفت الإشارة إلى أن المبدأ المولد لـ”الشعري” في هذا الصنف من الرواية يقوم على الانزياح. فكيف نتمثل الانزياح في الرواية الجديدة وعلى أي معيار نستند لضبطه ؟
يمدنا فردناند دو سوسير بمفهومين أساسيين نرى إمكانية توظيفهما لحل الإشكالية أعلاه. هذان المفهومان هما : اللسان والكلام، فاللسان في تقدير اللسانيين هو مجموع القواعد المعيارية، لذا يمكن مماثلته بمجوع القواعد المحددة لشفرة الكتابة الروائية. أما الكلام فيقصد به الاستعمال الفردي أي – بالنسبة لموضوعنا مجموع الخصوصيات التي ينفرد بها كل روائي على حدة.
فإذا كانت اللسان/المعيار هو كل القواعد والأصول التي يستنبطها كل الروائيين التي تمثلها الرواية الكلاسيكية بامتياز فإن الكلام /الانزياح هو جل الإنجازات الفردية أي مختلف التوسعات والتجديدات التي يقوم بها الروائيون الجدد. وضمن هذه الانزياحات نجد الاتجاه نحو شعرنة الرواية. ولأجل التوضيح يمكننا أن نستدعي مفاهيم لسانية أخرى وردت عند اللساني الأمريكي الشهير – نوعام تشومسكي- هي القدرة والإنجاز. فالقدرة تعني : > نسق القواعد المستبطن من قبل الذوات المتكلمة، والذي يتشكل من المعرفة اللسانية التي تستطيع بها هذه الذوات النطق وفهم عدد غير محدود من الجمل< (22)
إن هذا النسق من القواعد هو الذي يشكل حدس الروائي، وهو الذي نعتبره معيارا، ونمثل له روائيا – في الثقافة العربية – بالشكل المعروف منذ البداية إلى حين ظهور موجة الرواية الجديدة. ويعتبر نجيب محفوظ المهندس المؤطر لهذا النموذج .
أما الإنجاز، فيمكن اعتباره – في نموذجنا الافتراضي- رديفا لمفهوم الانزياح. ونعني بهذا الانزياح مختلف المحاولات الروائية التي تنتهك القوانين المتعارف عليها وهي إجمالا مختلف المحاولات التجريبية والحداثية الباحثة عن آليات جديدة لتجاوز طرائق الكتابة الروائية الكلاسيكية.
وختاما يمكن القول بأن الرواية الجديدة تحقق انزياحا بالنسبة للرواية الكلاسيكية إن على مستوى لغاتها أو مستوى توظيفها لتقنيات السرد/الخطاب. فالرواية الجديدة تتجه إلى اعتماد جماليات وقوانين جديدة تؤدي إلى المزج بين مكونات الخطاب الشعري والخطاب السردي، وهذا الأمر هو الذي انطلقنا منه افتراضا باختراق الشعري للروائي، ولأجله حاولنا صياغة هذا التصور النظري، على أن زعمنا بأن الرواية الجديدة شعرية والرواية الكلاسيكية دون ذلك لا يندرج في سياق المفاضلة بين الصنفين، فلكل منهما جمالياته ومتعته، بل إن منطق الإنصاف يلزمنا القول بأن روايات كلاسيكية كثيرة، ممتعة بينما لا يتحقق ذلك سوى في القليل النادر من الروايات الجديدة.
————————————–
الهوامش
1-Jakobson (Roman), Essais de linguistique générale, I, Ed. Minuit, Paris, 1963. Voir aussi :-Pellier (Anne-Marie), Fonctions poétiques, Ed. Klincksieck, Paris, 1977, p. 5
-Todorov (Tzevetan), Genres littéraires, in Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, Seuil, Paris, 1972, p. 198
2- Vietor (Karl), Histoire des genres littéraires, in Théorie des genres, Seuil, 1986, p. 15
3- Spitzer (Léo), Etudes de style, Tel Gallimard, 1970, pp. 9-10
4- تودوروف : الشعرية ، ترجمة شكري المبخوت ،رجاء بن سلامة، دار توبقال ، 1990 ، ص 27
5- محمد برادة : مجلة الآداب البيروتية ع 3 – 4 ، 1988، ص 19
6- Todorov, op.cit, pp. 375-376
Barthes, Analyse sturcturale du récit, Poétique du récit, Poétique / Seuil,- 1977, pp. 10-11
Benveniste (Emile), Problèmes de linguistique générale, In, Tel / Gallimard, 1966, pp. 128-129-130-
7- ويليك ( رونيه ) وارين ( أوستين ) : نظرية الأدب ، ترجمة محيي الدين صبحي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 1981 ، ص 255
8- انظر حميدالحميداني : أسلوبية الرواية ، منشورات سال ، 1989 ص 71
9-Benveniste, op. cit., p. 119
10- GroupeM, Rhétorique générale, Seuil, 1982, p. 24
11- كوهين ( جان ) : بنية اللغة الشعرية ، ترجمة محمد العمري ومحمد الولي ، دار توبقال ، 1986 ، ص 40
12- نفسه ص 117
13- نفسه
14- يقطين ( سعيد ) : تحليل الخطاب الروائي ، المركز الثقافي العربي ، 1989 ، ص 17
15- Benveniste, op. cit., pp. 129-130
16- Ibidem, p.130
17- Dubois (Jean) et autres, Dictionnaire de linguistique, Larousse, 1973, p. 156
18- تودورف : مقولات السرد الأدبي ، ترجمة الحسين سحبان / فؤاد صفا ، مجلة آفاق ، عدد 8 – 9 ، 1988 ، ص 31
19- جونيت ( جيرار)، حدود السرد الأدبي ، ترجمة بنعيسى بوحمالة ، مجلة آفاق ، عدد 8 – 9 ، 1988 ، ص 62
20- بارث ( رولان ) : التحليل البنيوي للسرد، ترجمة حسن بحراوي، بشير القمري ، عبدالحميد عقار، مرجع سابق
21 – Ricoeur (Paul), Narrativité, C.N.R.S., 1980, p. 26
22 – Dubois, op. cit., p.103
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=7006