كيف تنزاح الأشياء عن وضعها الأصلي لتعانق عالما لا ينتهي من الدلالات ؟
كيف تُبنى معاني النص، وتتعدد وتتنوع، لتسلم نفسها تارة وتستعصي على الضبط في غالب الأحيان؟ وكيف تشتق النصوص من النصوص ؟
كيف تدل الصورة على شيء آخر غير ذاتها، وكيف تتعدد معانيها وتتنوع وكيف يكون للوضعة والعين والشكل معاني أخرى غير الرؤية والموقع وشكل الوجود؟ وكيف تفر الكلمات من لحظة التعيين والوصف لتغوص عميقا في قلب دلالات تزدري اليومي والنفعي والمباشر ؟
تلك بعض الأسئلة التي يحاول محور هذا العدد الإجابة عنها. وهي أسئلة تخص المعنى في لحظات وجوده ومظاهره وأنماط اشتغاله، تخص لحظة انبثاقه من أصله ولحظة تحققه ولحظة تلقيه، إنها تحاول تصوره في أحاديته وفي تكاثره وتعدده. فالمعنى غاية، أو هو مبدأ للتنظيم، فما ” يعني” هو ما “ينظم” أيضا، وهو إضافة إلى ذلك مبدأ للتعرف ومبدأ للإدراك أيضا. فما “نقرؤه “وما “نسمعه” وما “نراه” هو كذلك في حدود إحالته على معنى، فخارج المعنى ليس هناك سوى السديم، > فالعالم لا يمكن أن يوصف بـ “الإنساني” إلا في حدود دلالته على شيء ما < ( گريماص). فلا وجود إذن لتجربة إنسانية خرساء، خالية من المعاني ولا تتخللها العلامات.
لا شيء يفلت من سلطان المعنى، فهو في كل شيء، إنه في كل الوقائع، إنه في النصوص وفي الصور، في الجسد والإيماءات، إنه يتخلل الأشياء والموضوعات والطقوس. فأينما وضعنا أيدينا تدفق المعنى، فنحن من ينتج المعنى ونحن من يستهلكه ويبحث عنه ونحن أيضا من يهرب منه ويزدريه ويشتهيه. وهو في كل هذه الحالات ليس مفصولا عمن يقرؤه ويستقبله، عمن يجسده في فعل تأويلي خاص أويذهب به في كل الاتجاهات.
إلا أن هذه الوقائع لا تدل من تلقاء نفسها ولا من خلال خصائصها، فهي لا تنتج معانيها في انفصال عن الكون الإنساني الذي يمنحها مادة المعنى ومادة التدليل ومادة التلقي.
قد يكون المعنى لصيقا باللسان، وتلك حالة الكلمات . فمداخل المعنى ومخارجه هي هذه الوحدات ذاتها في تحققها وفي إحالتها على وحدات من نفس الطبيعة أو وحدات مخالفة. وفي الحالتين معا فالمعنى يبنى من الاختلاف، والاختلاف هو الأصل في الإمساك بالمعنى. فـ>البنية الدلالية هي توليف وتنظيم، أي وجود توازي بين التعبير والمحتوى واعتبار التعبير مُكَوَّنا من فوارق متغايرة تُعْتَبَر شروط وجود معنى متفمصل < ( گريماص).
إن شكل تحقق المعنى ليس مشروطا بشكل وجوده. فالمعنى ليس معطى جاهزا، ولا هو حصيلة إدراك بسيط لمعطى يوجد خارج الذات. إن المعنى ليس في الأشياء، بل هو في الأيدي والأعين التي تدرك تلك الأشياء. وتلك حالة الصورة مثلا. فالصورة لا تدل من خلال ما يؤثثها وإنما من خلال موقع هذه العناصر داخل التجربة الإنسانية. فالمعنى هنا وليد تمثلات ثقافية كبرى تخص الـ”أنا” و”الآخر” و”الزمان”و”الفضاء” ، كما تخص مجمل العلاقات الإنسانية وما تفرزه من قيم وأحكام وتصورات يتم إيداعها داخل عضو أو داخل نظرة أو داخل وضعة، لتصبح هذه العناصر دالة خارج إطارها النفعي.
وهي حالة النصوص أيضا. فالنص بمجرد ما يوضع للتداول تنتفي إرغامات منتجه ولن تبقى آنذاك سوى القراءة ( بارث)، وحينها يكون هذا النص عرضة لتأويلات لا حد لها ولا حصر. وهذا أمر طبيعي، > فللعلامة الحق في أن تحدد قراءتها حتى ولو ضاعت اللحظة التي أنتجتها إلى الأبد، أو جهل كاتبها ما يود قوله. فالعلامة تسلم أمرها لمتاهتها الأصلية < ( دريدا).
ومع ذلك، فالمعنى تحكمه ضوابط، أو ، إن شئنا القول، يتأرجح بين ذاتية تمنحه بعده الإبداعي المتجدد وتمكن النصوص من التفرد والتميز، وبين موضوعية تحد من غلواء التأويلات وعبثيتها أحيانا. > فالنص يفترض، وإن بشكل جزئي، قراءاته الممكنة، فهو يشتمل على تعليمات تأويلية واضحة أو غير واضحة لا يمكن أبدا تجاهلها، وإلا تحول التأويل إلى مجرد إعادة كتابة النص من جديد< ( راستيي)
وكما أكدنا ذلك مرارا، فإننا لا نزعم أننا أجبنا، من خلال هذه المقالات، عن كل القضايا التي يثيرها المعنى في وجوده اللغوي أو النصي أو الصوري، إننا نحاول فقط أن نرسم معالم معالجة جديدة تجعل من تصور المعنى شرطا ضروريا لكل قراءة.
ونتوجه بالشكر الجزيل إلى كل الذين أسهموا معنا في إنجاز هذا العدد، ولم تمنعهم مشاغلهم العديدة من مدنا بنصوص خاصة وبترجمات لنصوص نقدمها هنا للقارئ العربي. فلهم منا كل التقدير والاحترام.
علامات
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=7012