أ . ج . گريماص
ترجمة : أحمد الفوحي
تقديم
هذه المقالة هي في الأصل عرض ألقاه گريماص في ندوة ” الدراسات المعرفية وأبحاث الذكاء الإصطناعي” التي نظمتها مؤسسة فينر گرين في شيكاغو في مارس 1969، وقد ضمنها كتابه ” عن المعنى ” Du sens الصادر عن منشورات سوي 1970، وفيها يربط بين البنية الدلالية والعالم الدال الذي يعيش الإنسان فيه. ثم يتحدث عن هذه البنية باعتبارها توليفا بين المقولات السيمية والمحتوى وكونها تمفصلا لعالم الدلالة في مستويي التعبير والمحتوى اللذين أرساهما سوسير وطورهما يالمسليف ليصبح كل مستوى يشتمل على شكل ومادة. وقد مكن النظر إلى اللغة باعتبارها شكلا ينظم توارد مادتين مختلفين ومنفصلتين في شكليهما السميائيين الخاصين من تحديد مكانة البنية الدلالية في نظرية معرفية عامة وتحديد العلوم بأنها لغات مبنية تُجَلِّي الشكل والمادة معا. ولما كان تناول المعنى بالدراسة والتحليل يتم باستعمال لغة أخرى محايدة للحديث عن الشيء نفسه بطريقة أخرى، اعتبرت الدلالة تلازما بين مستويين لسانيين أو سننين مختلفين، فكان من اللازم اعتماد قواعد معرفية تمكن من التر-تسنين أي الانتقال من سنن إلى آخر، وتقوم على انسجام الوصف وبساطته. وهذا الانتقال في السنن إما عمودي أو أفقي. ويعتبر تحويل التعبير إلى محتوى محاولة لتفسير الانتقال من المرجع الخا-لساني إلى مستوى البنية الدلالية، ويشكل هذا أهم القضايا الأساسية في السميائيات.
الترجمة
1- البنية والعالم الدلاليان.
تعني عبارة البنية الدلالية” الشكل العام لتنظيم مختلف العوالم الدلالية -الحقيقية أو الممكنة -ذات الطبيعة الاجتماعية والفردية (ثقافات أو أشخاص). وتبدو معرفة ما إذا كانت البنية الدلالية ماثلة ومتضمنة في العالم الدلالي، أو كانت بناء ميتالسانيا يعكس ما يجري في مجال ما، مسألة غير ملائمة. فالمعنى يبدو دائما كمعطى مباشر؛ وهذا يكفي الإنسان كي يعيش ويتصرف داخل عالم دال. ولا تثار مسألة وضع الدلالة البنيوي إلا مقترنة بمشروع وصفها العلمي. وقد يقبل عالم الدلالة الفرضية البنيوية بالقول بوجود بنية دلالية تنظم عالِم المعنى أو أن هذه البنية مفترضة من أجل تقصي العالم الدلالي واستكشافه. وسيترتب عن هذا نتائج عملية مماثلة : سيكون على عالِم الدلالة أن يبني نظرية تمكنه من بناء نماذج صورية تكون مطابقة للبنية السابقة في الوجود (أو يكون بإمكانها أن تعكس العوالم الدلالية المعينة)، وميتا-نظرية معرفية تمكنه من تقدير كفاية (1) هذه النماذج حق قدرها.
2- البنية الدلالية نوع من التوليف والتنظيم.
يبدو أن أفضل منطلق لفهم البنية الدلالية يكمن، لحد الآن، في التصور السوسوري لمستوى اللغة- مستوى التعبير ومستوى المحتوى- باعتبار وجود المعنى مشروطا بوجود التعبير.
إن تصورا كهذا يمكن من :
أ- افتراض التوازي بين التعبير والمحتوى، ثم تقديم فكرة تقريبية عن نمط وجود الدلالة وتمفصلها.
ب- اعتبار مستوى التعبير مكونا من فوارق متغايرة تعتبر شروط وجود معنى متمفصل، ويترتب عن هذا أن تلك الفوارق] أدوات للحكم على كفاية النماذج المتبعة من أجل وصف المستوى الدلالي (طبق القاعدة المنبثقة عن مبدإ التوازي، والقاضية بأن كل تغيير في التعبير يطابقه تغيير في المحتوى).
وتسمح فرضية التناظر بين المستويين إذن، بتصور البنية الدلاليــــة على أنها تمفصل للعالم الدلالي في وحدات دلالية دنيا (سيمات) مطابقة لسمات مستوى التعبير المميزة (الفيمات phèmes ) (2). فهذه الوحدات الدلالية مكونة بالطريقة نفسها التي تتكون بها سمات التعبير، وذلك في شكل مقولات سيمية ثنائية (والثنائية هنا] باعتبارها قاعدة للبناء لا مبدأ يقرر في شأن نمط وجودها بالضرورة).
وعليه فقد أصبح، تصور كيف يولد عدد قليل من المقولات السيمية، بفضل التوليف، عددا لا يستهان به من الوحدات الدلالية الكبرى يطلق عليها السيميمات (وهذه تسمية خاصة بالكلمات متعددة المعاني، مثلا) أمرا يسيرا.
ومن السهل أيضا ملاحظة أن التناظر المقام بين البنيات الدلالية والفونولوجية الكامنة في مستوى من اللغة عميق، لا يمكن أن ينطبق عندما يتعلق الأمر بتقويم أبعاد الوحدات المتجلية في مستوى اللغات الطبيعية السطحي. وقد نقول بوجود تناظر بين السيمات والفيمات، وبما أن التوليف بين الفيمات تنتج عنه الفونيمات فإن التوليف بين السيمات يفضي إلى السيميمات. إلا أننا نرى عدم التطابق بين الأبعاد المركبية لكل من الفونيم والسيميم (إنها أبعاد تعادل أبعاد اللكسيم تقريبا). وبمتابعة هذه المقارنة، يمكن ملاحظة أن التوليف بين الفونيمات يؤدي إلى المقاطع، بينما ينتج عن توليف السيميمات ملفوظات دلالية.
وإذا لم تكن هذه المقارنة مقنعة عندما يتم اعتبار مستوى التجلي اللساني وحده، فإنها تقيم، رغم ذلك، توازيا مهما بين وحدات التعبير والمحتوى قبل تجليها وبروزها. وهكذا فإذا قبلنا مبدأ التناظر بين المقاطع والملفوظات الدلالية، فإن الاعتبارات المتعلقة بالبناء والامكانات التوليفية بين المقاطع ستصبح، في كل مرة، صالحة لفهم البنية الدلالية المعتبرة في مستوى التمفصل الواحد. وهذا الأمر يمكن صياغته على النحو التالي :
أ- لا يغطي توليف الملفوظات الدلالية إلا حيزا قليلا من البنية الدلالية بالنظر إلى الفارق الموجود بين إمكانات التوليف المقطعي البنيوية وبين العدد المحصور جدا من المقاطع المستعملة في لغة طبيعية ما (وقد تطلق عبارات الاستعمال الدلالي، فيما يخص العوامل الثقافية، والانجاز الدلالي، فيما يخص العوالم الفردية، على هذه التقليصات).
ب – وبالنظر إلى الإقرار بالتنافرات التوزيعية في بناء التسلسلات المقطعية، بات من اللازم تصور وصياغة قواعد الحصر لبناء الملفوظات الدلالية والتوليف بين جمل عديدة.
وهكذا تبدو البنية الدلالية وكأنها توليف محتمل، ولكنه جامع، بين المقولات السيمية، وفي المقابل فإن الاستعمالات والانجازات الدلالية تطابق التجليات المحصورة والمميزة وفق شكل الثقافات والشخصيات. وهذا سيؤدي إلى مقاربتين متوازيتين ومختلفتين، أساس الأولى استكشاف العوالم الدلالية المحتملة المفتوحة باعتبارها إمكانات الانسان الخلاقة؛ وأساس الثانية وصف العوالم الدلالية الماضية أو الحاضرة، المحصورة والمحققة، التي تشمل مجموع أبعاد البشرية التاريخية والنمطية.
3- الشكل السميائي والشكل العلمي .
حسب تصور الشكل اللساني لدى سوسير، المقدم في صيغته اليلمسليفية المطورة ، فإن كل لغة يمكن تعريفها بأنها شكل محصل عليه بتضافر مادتين مختلفتين، لكل واحد منهما شكلها الخاص: مادة التعبير ومادةالمحتوى. وإن تطبيقا متبصرا لمبدإ التناظر بين هاتين المادتين يمكننا من نقل معرفتنا لمستوى التعبير، وإدخال نوع من الوضوح والبيان في مجال الدلالة على النحو التالي] :
أ – إذا كان بإمكان مادة التعبير أن تتغير في الشكل دون إدخال تغيير في شروط الدلالة، وجب ألا نقف عند الإقرار بأن اختيار مادة معينة للدال غير ملائم لتجلي المعنى فحسب، وإنما افتراض وجود شكل معين للمادة في كل حالة، متغير ولكنه قائم بذاته، ومستقل عن الشكـــل اللساني، في كل الأحوال. (بالامكان النظر في وضعين مختلفين غير متناظرين للسمات المميزة الفونيمية والخطية (3) لا نجد فيهما أي رابط بين فئة من نوع ب/پ، أي مجهور/ غير مجهور وفئة م/ن، أي الميم القائمة على ثلاثة أعمدة m في مقابل النون القائمة على عمودين n ).
ب – إذا تم الإقرار بوجود شكل خاص، تستقل به كل مادة مستعملة على مستوى التعبير، لزم القبول في الوقت نفسه بأن الشكل الذي سيطلق عليه سميائيات المادة يجب أن يكون مختلفا عما يمكن تسميته ب الشكل العلمي للمادة نفسها؛ فمثلا إذا كانت الكمياء، بما هي علم، تنظيما شكليا خاصا بمجال مادة ما، فإن العناصر الكمياوية هي هذه الوحدات الدنيا (أي السمات المميزة) التي ينتج عن التوليف بينها في مستوى التجلي مظهر من مظاهر ما يسمى عالم المعنى العام الذي لم نجد له لفظا مناسبا للتسمية غير هذا. فالكمياء شكل علمي يوظف تجليها السطحي في بناء الشكل السيميائي الذي يجب عليه أن يسهم في التعبير عن المعنى عبر مختلف أنماط اللغة وهو بناء يتم بوساطة تمفصل جديد.
جـ – من اليسير إبداء الملحوظات نفسها عن المادة الدلالية. فالشكل السيميائي لهذه المادة (أي البنية الدلالية) يختلف عن أشكالها العلمية الممكنة (ولو كان الأمر كذلك لأمكن اعتبار العلوم الانسانية والاجتماعية، في وضعها الحالي، أشكالا علمية) .
وقد يبدو أن تصور اللغة بكونها شكلا ينظم توارد مادتين مختلفتين ومنفصلتين في شكليهما السميائيين الخاصين، اللذين يجب عليهما أن يكونا مميزين عن الشكلين العلميين للمادتين نفسيهما، تعقيد لا طائل من ورائه. بيد أنه يبدو لنا أن هذا التصور يعين على تحديد مجال البنية الدلالية في اختزال نظرية معرفية عامة. وأكثر من هذا؛ فإنه يمكن من تعريف العلوم بأنها لغات قائمة، تجلي شكل المادة بكيفية خاصة ودقيقة. إن تصور اللغة على هذا النحو يسوغ، على سبيل المثال، الخلاف الدائر حول دور المنطق (بمختلف نماذجه) في علاقاته بعلوم الطبيعة والسميائيات. وبينما يمكن تعريف المنطق في اصطلاحنا، بأنه شكل المحتوى المستعمل للتحقق من الصياغات اللسانية للشكل العلمي للكون باعتباره تعبيرا (يسمي المناطقة هذا الشكل العلمي علم الدلالة)، فإن المنطق الذي نحتاج إليه في الدلالة هو نوع من علم الجبر خاص ب] شكل التعبير اللساني، يمكننا من التحقق من تمفصلات البنية الدلالية.
4- التر-تسنين (4) العمودي والأفقي
أصبح من المسلم به، عموما، في الوقت الراهن أن كل تفسير للمعنى أو وصف له ليس سوى عملية تر-تسنين. فشرح معنى كلمة أو جملة، يعني استعمال كلمات وجمل أخرى للاتيان بصيغة أخرى لـ >الشيء نفسه<. وفي هذا السياق يمكن تعريف الدلالة بأنها تلازم بين مستويين لسانيين أو سننين مختلفين. فكل الأوصاف الدلالية هي من هذه الطبيعة ، ولا يمكن إثبات وضعها العلمي إلا بإدراج عدد معين من القواعد والأسس المعرفية للتر-تسنين (من ذلك انسجام الوصف الدلالي وبساطته) أو توظيف نماذج ملائمة لمقتضيات النسخ الدلالي في هذا الوصف.
غير أن الدراسات الحديثة المطبقة على اللغة والممارسات الاشارية تظهر إمكان تصور تفسير للمعنى بطريقة أخرى مغايرة : فالمعنى يمكن تصوره كمشروع محتمل، أو إنهاء لحدث مبرمج (ينظر >منحى التاريخ< أو >إتقان الاسكافي).
إن تطبيق الثنائية حدث/نسق، المقولة المفسرة ذات الطبيعة الأكثر عموما، من أجل الاحاطة الجيدة بهذا النمط الجديد من تجليات المعنى، لا يمكن من تصور عويلم دلالي محدد فحسب، بل اللغة معتبرة في عمومها. وذلك في أشكال ثلاثة:
أ- قد يوصف بأنه نسق مفترض سابق، منطقيا، على الحدث الذي سيتحقق.
ب- قد يوصف بأنه حدث، أي برنامج موجه ذو طبيعة جبرية يشتمل على غاية يمكن التعرف عليها لاحقا (يمكن مراجعة تطور الجنين في علم الوراثة).
جـ- قد يقدم على أنه نسق ينظم نتائج الحدث المبرمج .
إن هذه الأوصاف المختلفة- الوصف باعتباره دائما تسنينا جديدا – تشكل ثلاث مراحل متميزة للترتسنين الأفقي.
وقد يدرك مستوى تعبير اللغة، مثلا، في مجال الابلاغ على أنه توالي عمليات الترتسنين الأفقي، وكل مرحلة من هذه السيرورة تتميز بكونها:
1) نسقا افتراضيا مستلزما، يمكن من تحقيق الحدث الإشاري لأعضاء النطق.
2) الحدث الاشاري لتمفصل الأصوات.
3) البنية الفونولوجية المحققة.
4) نسقا افتراضيا يمكن من إنجاز برنامج فك السنن .
5) برنامج فك السنن باعتباره حدثا إدراكيا.
وهذه الأمور تقتضي إبداء الملحوظتين التاليتين :
أ- الأولى ذات طابع منهجي يتمثل في تساوي وصفين مختلفين، وصف الأنساق الافتراضية أو المحققة، ووصف البرامج الموجهة. وهذا يعني، مثلا، أن المقاربات المنهجية والأوصاف التي جاء بها يلمسليف وشومسكي يمكن اعتبارها متساوية، مع تغيير ما ينبغي تغييره .
ب- وأما الثانية فذات طابع ابستيمولوجي: إن بناء التعبير بوصفه أحد مستويات اللغات الطبيعية يقتضي عملية الترتسنين التي يكون الانسان هو القائم بها.
5- من التعبير إلى المحتوى.
إن هذا التصور للشكل السميائي باعتباره قابلا للخضوع لعمليات ترتسنين مختلفة، عمودية (ميتالسانية) وأفقية، والتأويل الذي نقترحه لحدث الإبلاغ المعتبر متوالية من عمليات التر-تسنين، يساعداننا في محاولتنا إدماج البنية الدلالية في إطار نظرية معرفية عامة يكون الكون فيها بمثابة المادة المتمفصلة والموصوفة تدريجا عبر مختلف ضروب اللغات .
فإذا اعتبرنا أن ما نسميه عالم المعنى المشترك ليس إلا المستوى الذي يتجلى فيه الشكل العلمي (أي الكون باعتباره علما) رأينا أن هذا العالم المتجلي يقدم في الآن نفسه، مع كونه مادة الشكل العلمي، على أنه مادة الشكل السيميائي الذي يمفصله في مقولات إدراكية ذات طبيعة مرئية، أو شمية أو ذوقية طعمية. إن التقاء هذين الشكلين المختلفين يمكن تأويله بأنه ترتسنين خاص يحول وحدات الشكل العلمي المركبة (مثل الصيغ الكميائية الخاصة) إلى وحدات استبدالية دنيا للشكل السميائي (مثل الكيانات الخاصة للروائح والطعم). وحينئذ يمكن ترتيب وتنظيم البون بين العالم الفزيائي باعتباره بنية علمية، وعالم الانسان، باعتباره بنية سميائية، عن طريق إقامة استلزامات بين ما يمكن أن نطلق عليه، إجمالا، المركبية العلمية والاستبدالية السميائية.
ولو قدر أن نعكس حدث الادراك، الذي يدرك بوساطته العالم المتجلي على أنه >عالم الأوصاف المحسوسة< بافتراض نسق محتمل بتلازم مع الدماغ و بإثبات الشكل السميائي لتعبير هذا العالم، فإن ظاهرة جديدة للترتسنين ستصبح بادية للعيان في هذا المستوى : ستتحول وحدات مستوى التعبير هذا الدنيا، أو حتى تشكلاته الكاملة، من أجل إحداث لغات طبيعية، في شكل] وحدات مستوى المحتوى وتشكلاته، ذات الخصائص والأبعاد نفسها. (وهكذا يمكن التحليل الدلالي لعنصر معجمي نحو الرأس، مثلا، من تمييز صورة نووية ذات ادراك خارجي (لمسي)، وثابتة بالنسبة لكل استعمالات الكلمة] وفي كل السياقات المختلفة] إنها صورة يمكن وصفها بأنها >طرف حاد أو دائري الشكل< لشيء ما). إن التحويل من التعبير إلى المحتوى، المعتبر إجراء يجعل نسقين محتملين في علاقة استلزام -يتحكم أحدهما في فعل الادراك ويعكس الآخر تجلي البنية الدلالية اللساني- هو تحويل يمكن تقديمه على أنه محاولة تفسير الانتقال من المرجع الخا-لساني إلى مستوى المحتوى اللساني، أي إلى البنية الدلاية.
فاللغة في عمومها إذن، هي ارتباط مادتين مختلفتين كلتاهما ذات طبيعة حسية (تشكل إحداهما مستوى التعبير، والأخرى مستوى المحتوى)، تتمفصلان في شكلين سميائيين مختلفين، ويتم تر-تسنينهما بطريقتين مختلفتين بوساطة الشكل اللساني (وفعل الوساطة نفسه يتلازم وأنشطة الدماغ الفزيولوجية) . وبينما يتم الحصول على مستوى التعبير عن طريق تر-تسنين حدث معين في نسق ما، يكون الحدث والنسق مرتبطين فيما بينهما] بمادتين مختلفتين، فإن مستوى المحتوى هو محصل إقامة استلزام بين نسقين ينتمي أحدهما إلى مستوى التعبير والآخر إلى مستوى المحتوى .
وبعبارة أخرى فلا وجود لقطيعة بين تجلي البنية العلمية للعالم المسلم بوجوده من لدن الانسان، وتجلي البنية الدلالية التي تقترح أن هذا العالم موجود ودال؛ أي أنه عالم دلالي. وإنما يتعلق الأمر بسلسلة عمليات ترتسنين فحسب .
6- الكليات اللغوية
يكشف تحليل متن تمثيلي من الوحدات الدلالية، من مثل السيميمات أو الملفوظات الدلالية ، وجود ضربين مختلفين من السيمات في مستوى اللغة الدلالي، تتكون المجموعة الأولى، من هذه المقولات السيمية، من سيمات ذات أصل حسي خارجي(5) تطابق مقولات عالم المعنى المشترك الكيفية. وتتكون المجموعة الثانية، من مقولات استنباهية داخلية(6) (نحو الكائنات/الأشياء والموضوعات/العمليات) : وهذه المقولات لا يمكن تفسيرها عن طريق تحويل وحدات التعبير إلى وحدات المحتوى، ويجب اعتبارها مقولات شكلية خالصة (وذلك باعتبارها مكونة للشكل لا أنها مجردة من المعنى) .
ومن اليسير معاينة أن هذه المقولات مستعملة لتأطير فعل الابلاغ، وتجعل من الممكن نقل المحتوى المعتبر توليفا للمقولات المدركة من الخارج، فهي تُكَوِّن، إذن، المقولات النحوية، والنحو نفسه ليس سوى تنظيم خاص للمقولات الشكلية (الصورية).
وهذا لا يعكس كل استعمالاتها الوظيفية. فعندما نحاول تحديد شروط إدراك المعنى الدنيا ونعتبر أن وجود فوارق التباين في مستوى التعبير يشكل الشرط الأفضل لظهور الاختلافات في المعنى، نضطر إلى الاقرار بأن هذه الفوارق لا يتم إدراكها إلا باقتضاء مقولات صورية قبلية نحو هوية/غيرية (الاختلاف) أو وصل /فصل. وهذا يعني، بتعبير آخر، أننا لاندرك موضوعين خارجيين متباينين، وإنما العلاقة بينهما فحسب. فمستوى التعبير، باعتباره مادة، ليس إلا ذريعة ضرورية لادراك فارق التباين. وعليه يجب أن تؤول عملية الادراك هاته بأنها تنظيم خاص للمقولات الصورية؛ وهو تنظيم يعكس، بمفرده، هذا الادراك. إن الشكل السميائي لا يقوم إلا >بتشكيل<(7) المادة دون أن ينتمي إليها.
وهكذا يمكننا هذا التنظيم الشكلي للمادة من تفسير ظهور المعنى في شكل تمفصل التباينات في مستوى التعبير. وقد يتميز شكلان سميائيان متوازيان عن بعضهما البعض، شكل التعبير وشكل المحتوى؛ وهما متماثلان لكونهما منبثقين عن شكل لساني واحد ولكنهما غير متشاكلين لأن مستويي التعبير والمحتوى متمفصلان بطريقتين مختلفين.
إن هذا التصور، تصورَ توازي شكلين سميائيين، يمكننا من فهم سيرورةتحويل مقولات التعبير إلى مقولات المحتوى، وهذا أحد أهم إشكالات السميائيات. ولما كان الشكل اللساني مكونا من شكلين سيميائيين متميزين بتمفصلات متماثلة فإن الانتقال من بنية التعبير إلى البنية الدلالية لا يمكن تصوره إلا بوجود هذين الشكلين المتماثلين والمتشاكلين في الآن نفسه، في ظروف خاصة؛ وآنئذ تتم مطابقة مقولات العالم الخارجي الكيفية بمقولات البنية الدلالية السيمية. وعليه فإن تشاكل الشكلين السميائيين سيعكس ظاهرة استبطان العالم الخارجي.
إن فهرسة، ولو بسيطة، للمقولات الصورية (التي يضاف إلى ما ذكر منها سلفا، على سبيل التمثيل، المقولات التالية : علاقة/ حد ونفي / إثبات وحدث/ نسق واحتمالي/فعلي…) تظهر أن هذه المقولات، التي تبدو كأنها أدوات ضرورية لفحص شروط تحقيق] المعنى، ليست هي ما نحتاج إليه لبناء نظرية لغوية معممة فحسب، وإنما تصلح، في الآن نفسه، لتشكل متنا من المفاهيم الابستيمية لحدود التقصي والتنظير العلمي، أي بناء نماذج علمية خاصة وإعداد نظرية عامة عن المعرفة العلمية. وهذا أمر يطابق تصورنا للسميائيات القاضي بأن العلوم ليست سوى أشكال علمية مبنية كأنها لغات .
وإذا كان جرد المقولات الصورية هذا مستعملا لصياغة نماذج علمية وسميائية، وكانت النماذج الاجرائية قابلة، للترتسنين في نماذج نسقية أو العكس، مع تغيير ما يجب تغييره، أمكن حينئذ افتراض مستوى متجانس من أجل وصف العالمين العلمي والدلالي معا.
—————————————
هوامش المترجم
1- يعرف مصطلح الكفاية adéquation في الأدبيات اللسانية بأنه معيار لتحديد مدى ملاءمة نموذج لساني ما لملاحظة الظواهراللسانية ووصفها وتفسير قدرة المتكلم /المستمع .
2- أي الوحدات الفونولوجية الدنيا، وهو اصطلاح على غرار السيمات ( les sèmes) الوحدات الدلالية الدنيا.
3- الخطية نسبة إلى الخط والكتابة لا الامتداد الذي جاء به سوسير والذي يميز العلامة اللسانية عن غيرها من العلامات.
4- التر-تسنين مصطلح مركب يعني تحويل سنن إلى سنن آخر. ولما كانت الترجمة نقلا من لغة إلى أخرى اخترنا التركيب بينها وبين التسنين فحصلنا على هذا المصطلح المركب على غرار الخا-لساني …
5- أي تدرك التأثيرات الحسية الواردة من العالم الخارجي( extéroceptif)
6- أي تدرك من داخل الجسم ذاته الذي تنبعث منه تلك المؤثرات ( intéroceptif).
7- أي يعطيها شكلا معينا لكي لا تبقى هلامية أو سديما.
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=7022