ر. بارث
ترجمة : سعيد بنكراد
1- التقويم
يقال إن بعض البوذيين يستطيعون، بفضل تقواهم، أن يروا في حبة فول دنيا بأكملها. وهذا ما كان يطمح إليه المحللون الأوائل للمحكي : رد كل محكيات العالم ( وهي كثيرة ) إلى بنية واحدة. لقد كانوا يعتقدون أنهم قادرون على استخلاص نموذج من كل حكاية، جاعلين من هذه النماذج بنية سردية كبيرة، يمكن أن تنسحب ( من أجل المراقبة ) على كل محكي. إنه عمل شاق ( بالصبر يتأتى العلم، ولا مفر من العذاب) وأمر غير مرغوب فيه على كل حال، فالنص في هذه الحالة سيفقد ميزة اختلافه.
ولا يشكل الاختلاف هنا بطبيعة الحالة خاصة ممتلئة ومكتفية بذاتها ( حسب التصور الأسطوري للإبداع الأدبي )، فهو لا يشكل ما يعود إلى خصوصية كل نص، وليس هو ما يعينه ويوقعه ويؤشر عليه وينهيه. إنه على العكس من ذلك اختلاف لا يتوقف، لأنه مرتبط بلانهائية النصوص واللغات والأنساق : إنه اختلاف يعد كل نص بؤرة له. ولذلك وجب الاختيار : إما أن نضع كل النصوص ضمن بوتقة واحدة من أجل البرهنة، أي نساوي بينها تحت مجهرالعلم اللامبالي، أي إجبار هذه النصوص على أن تصبح النسخة التي سنشتق منها لاحقا كل النصوص. وإما أن ننظر إلى كل نص، لا في خصوصيته، بل في لعبه، أي قطفه – قبل قول أي شيء عنه- من خلال الإبدال اللامتناهي للاختلاف، وإخضاعه إجمالا لتنميط مؤسس، أي إلى تقويم. فكيف يمكن الحديث عن قيمة نص ما ؟ وكيف يمكن إذن تأسيس نمطية أولية للنصوص؟
لا يمكن للتقويم المؤسس لكل النصوص أن ينبثق من العلم، فالعلم لا يُقَوِّم، ولا من الإيديولوجيا، فالقيمة الإيديولوجية لنص ما ( القيمة الأخلاقية والجمالية والسياسية والإلزامية) قيمة تخص التمثيل لا الإنتاج. ( إن الإيديولوجيا ” تعكس ” ولا تشتغل ). إن تقويمنا لا يمكن أن يرتبط إلا بممارسة، وهذه الممارسة هي الكتابة. فهناك، من جهة، ما يمكن كتابته، وهناك، من جهة ثانية، ما لم تعد كتابته ممكنة : ما يدخل ضمن ممارسة الكاتب وما سينبثق عن هذه الممارسة : ما هي النصوص التي أقبل بكتابتها ( إعادة كتابتها )، وما هي النصوص التي أشتهيها، وتقديمها كما لو كانت قوة في هذا العالم الذي هو عالمي ؟ إن ما يعثر عليه التقويم هو هذه القيمة الأخيرة : وما يمكن الآن كتابته ( إعادة كتابته ) : المنكتب (le scriptible )* . لماذا يشكل المنكتب قيمتنا ؟ إنه كذلك لأن رهان العمل الأدبي ( رهان الأدب باعتباره اشتغالا) هو أن يجعل من القارئ منتجا للنص لا مجرد مستهلك. إن أدبنا موسوم بطلاق فظيع أقامته المؤسسة الأدبية بين صانع النص ومستعمله، بين مالكه وزبونه، بين مؤلفه وقارئه. وفي هذه الحالة، فإن هذا القارئ سيغرق في عالم الخمول وسيظل ملتزما بحدود النص. وباختصار سيلتزم جانب الجدية عوض أن يختار اللعب ليصل كليا إلى سحر الدال ولذة الكتابة، ولن يبقى له بعد ذلك سوى قبول أو رفض هذا النص : إن القراءة ليست في هذه الحالة سوى استفتاء.
ففي مقابل النص المنكتب تنتصب قيمته المضادة، قيمته السلبية والارتكاسية : ما يمكن أن يقرأ، ولكن لم يكتب : المنقرئ.( lisible) إننا نعتبر كل نص مقترأ نصا كلاسيكيا.
2 – التأويل
قد لا نجد أي شيء نقوله عن النصوص المنكتبة . أولا أين نعثر عليها؟ قطعا لن يكون ذلك في مجال القراءة ( ولربما كان الأمر كذلك في حالات نادرة : بالصدفة وبسرعة وبطريقة ملتوية في بعض المؤلفات التي تشكل استثناءات) إن النص المنكتب ليس شيئا، لذلك من الصعب العثور عليه في المكتبة. وأكثر من ذلك، فإن نموذجه من النوع الإنتاجي ( وليس من النوع التمثيلي). فهو لذلك يدمر كل نقد قد يصبح، بعد إنجازه، نسخة مطابقة له. إن إعادة كتابته لن تقود سوى إلى تفكيكه ونثره في حقل الاختلاف اللامتناهي.
إن النص المنكتب هو حاضر أزلي لا يرسو عليه أي كلام معقول( لأن ذلك سيحوله إلى ماضي) إن النص المنكتب هو “نحن” في لحظة الكتابة، قبل أن يٌخترق اللعب اللامتناهي للعالم ( العالم كلعب ) ويبتر ويوقف ويُعَلَّب داخل أنساق غريبة ( الإيديولوجيا والنوع والنقد ) ستحد من تعددية مداخله وانفتاح شبكاته ولانهائية لغاته.
إن المنكتب هو الروائية دون الرواية، والشعر دون القصيدة والمحاولة دون التحرير، الكتابة دون الأسلوب، والإنتاج دون المنتوج، والبنينة دون البنية.
وماذا عن النصوص المنقرأة ؟ إنها نتائج ( وليست إنتاجات) إنها تشكل العدد الهائل لأدبنا. فكيف نعيد تمييز هذه الكتلة ؟ يجب القيام بعملية ثانية هي نتاج العملية التقويمية التي كانت أصل التمييز بين النصوص. وستكون هذه العلمية أكثر دقة، ومرتكزة على تقدير ما يمكن أن يضيفه كل نص أوينقصه. إن هذه العملية الجديدة هي التأويل ( بالمعنى الذي يعطيه نيتشه لهذه الكلمة ). إن تأويل نص ما لا يعني منحه معنى ( مؤسسا وحرا إلى حد ما) ، فالعكس هو الذي يجب أن يحصل، يجب تحديد التعددية الكامنة وراء وجوده.
فلننظر أولا في مسألة صورة هذه التعددية الباهرة التي لا يحد منها أي قيد من قيود التمثيل ( المحاكاة ). إن الشبكات في هذا النص المثالي متعددة ومتداخلة فيما بينها، ولا تتميز أي شبكة عن أخرى. إن هذا النص هو مجرة من الدوال وليس بنية من المدلولات. فلا بداية له، إنه متعدد الواجهات، ويمكن الولوج إليه عبر بوابات متعددة لا تعد أي منها رئيسية.
إن الأسنن التي يستنفرها تنتشر على مدى البصر ولا يمكن الحسم في عددها ( إن المعنى لا يمكن أبدا إخضاعه لقرار ما بقدر ما هو ضرب من الصدفة)؛ إن أنساق المعنى قادرة على تملك هذا النص البالغ التعدد، إلا أن عددها لا يمكن أبدا أن يكون نهائيا، فهو يستند إلى لانهائية اللغة.
إن التأويل الذي يتطلبه النص المنظور إليه في تعدديته لا يمكن أن يكون من طبيعة ليبرالية : فالأمر لا يتعلق بقبول بعض المعاني، والاعتراف لكل معنى من هذه المعاني بحصته من الحقيقة. وإنما يتعلق، ضدا على كل لا-اختلاف، بتأكيد كينونته المتعددة، وهي تعددية لا تخص الحقيقة أو المحتمل أو حتى الممكن. ومع ذلك، فإن هذا التأكيد الضروري ليس سهلا، ذلك أنه بالإضافة إلى أنه لا شيء يوجد خارج النص، فلا وجود لكلية تخص النص ( وستكون هذه الكلية، ارتكاسيا، أصلا لنظام داخلي، ومصالحة جديدة بين الأجزاء التكميلية، وذلك تحت المراقبة المباشرة للنموذج المحتذى) : علينا تخليص النص مما يوجد خارجه ومن كليته في الآن نفسه. ويعني كل هذا ألاوجود، داخل النص المتعدد، لبنية سردية، ولا وجود لقواعد ولا منطق للمحكي. وإذا كانت هذه العناصر تقبل أحيانا بأن تكون موضوعا لمقاربة ما، فذلك أمر ممكن فقط في حدود ( ويجب أن نعطي لهذه العبارة كامل قيمتها الكمية) أننا نتعامل مع نصوص ليست متعددة بشكل كامل، إنها نصوص يتميز تعددها بنوع من البخل.
3- ضد الإيحاء
تحتاج النصوص معتدلة التعدد ( أي متعددة المعاني فقط ) إلى متذوق متوسط لا يستطيع الإمساك سوى بجزء وسطي، من التعدد. إنه وسيلة دقيقة جدا وغامضة في الآن نفسه عندما يتعلق الأمر بالنصوص الأحادية المعنى، وهي جد ضعيفة في حالة النصوص متعددة المعاني ومتعددة المداخل والمفتوحة على كل الاحتمالات ( النصوص المتعدد في كليتها).
إن هذه الوسيلة المتواضعة هي الإيحاء. والإيحاء عند هلمسليف، وهو من أعطى تعريفا لهذا المفهوم]، يشكل معنى ثانيا يتكون داله من علامة أو نسق لدلالة أولى هي التقرير. فإذا كان “ت” هو التعبير ، وكان ” م” هو المحتوى، وكانت ” ع” هي العلاقة بين العنصرين، أي ما يؤسس العلامة، فإن صيغة الإيحاء ستكون : ( ت ع م ) ع م. وبما أن الإيحاء لم يحدد بشكل دقيق، وظل مرتبطا بنمذجة خاصة بالنصوص، فقد ساءت سمعته. فالبعض ( الفيلولجيون مثلا) يعلن أن كل نص أحادي المعنى، يملك معنى حقيقيا وأصليا، ولذلك يلقي بالمعاني المرافقة، أي المعاني الثانية إلى السديمية الخاصة بترهات النقاد. وفي المقابل، فإن الآخرين، ( السميولوجيون مثلا ) يعارضون التراتبية القائمة بين ما ينتمي إلى التقرير وما ينتمي إلى الإيحاء. فهم يقولون إن اللسان، مادة التقرير، بتركيبه وقاموسه، هو نسق كباقي الأنساق. فلا داعي إلى تفضيل هذا النسق وجعله معيارا وفضاء لمعنى أول، يعد أصلا ومقياسا لكل المعاني المترابطة. وإذا كنا ننظر إلى التقرير في حقيقته وموضوعيه وقانونيته، فإن ذلك يعود إلى أننا لازلنا تحت تأثير اللسانيات التي حصرت، إلى يومنا هذا، اللغة في الجملة بمكوناتها المعجمية والتركيبية. والحال أن رهان هذه التراتبية هي أمر جدي : إن وضع مختلف معاني نص ما بشكل دائري حول مركزالتقرير ( المركز : الوسط، الحامي، الملجأ، نبراس الحقيقة ) يعني العودة إلى انغلاق الخطاب الغربي ( العلمي، والنقدي أوالفلسفي ) وإلى نظامه الممركز.
4- دفاعا عن الإيحاء مع ذلك
إن نقد الإيحاء هذا ليس صحيحا سوى بشكل جزئي. فهو لا يأخذ بعين الاعتبار نمطية النصوص ( إن هذه النمطية مبررة : فلا يمكن لأي نص أن يوجد قبل أن يصنف حسب قيمته )، ذلك أنه إذا كانت هناك نصوص منقرأة، تندرج ضمن نسق الانغلاق في الغرب ومصنوعة وفق غايات هذا النسق وخاضعة لسلطة المدلول، فمن الضروري أن يكون هناك نظام معنوي خاص، وأساس هذا النظام هو الإيحاء. ولهذا، فإن النفي الكوني للإيحاء، سيقود إلى تدمير القيمة الاختلافية للنصوص، وأن الامتناع عن تحديد الجهاز الخاص ( الشعري والنقدي في نفس الآن ) للنصوص المنقرأة ، سيقود إلى خلق نوع من المساواة بين النص المحدد وبين النص/الحد. وهو ما يعني حرماننا من أداة تنميطية. إن الإيحاء هو سبيلنا إلى تعددية معاني النص الكلاسيكي، وإلى هذا التعدد الذي يؤسس النص الكلاسيكي ( ليس من المؤكد أن تكون هناك إيحاءات في النص الحديث ). علينا إذن أن ننقذ الإيحاء من صيرورته المزدوجة، والاحتفاظ به كأثر، قابل للتعيين و الحصر، على وجود نوع من التعددية الخاصة بالنص ( هذا التعدد المحدود للنص الكلاسيكي). فما الإيحاء إذن ؟ من ناحية التعريف، يعد الإيحاء علاقة واستذكارا، وسمة تمتلك القدرة على الإحالة على ما ذكر، بشكل سابق أو خارجي، كما تحيل على بؤر النص ( أو بؤر نص آخر) : ولا يجب أن نقلص من حجم هذه العلاقة التي يمكن أن تتنوع تسمياتها ( وظيفة أو أو أمارة مثلا )، إلا إذا تعلق الأمر بعدم الخلط بين الإيحاء وتداعي الأفكار : فالتداعي يحيل على نسق خاص بموضوع ما، في حين يشير الإيحاء إلى تضايف محايث للنص أو النصوص، أو إذا شئنا القول إنه تداعيات يقوم بها النص/الموضوع داخل نسقه هو.
مَوْضِعيا تعد الإيحاءات معاني لا توجد في القواميس ولا في نحو اللسان الذي كتب به النص (الأمر يتعلق هنا بتعريف هش : بإمكان القواميس أن يكبر حجمها وبإمكان النحو أن يتغير)، ومن الناحية التحليلية، فإن الإيحاء يتحدد من خلال فضاءين : فضاء تسلسلي، أي تتابع منظم، وهو فضاء خاضع لتتالي الجمل التي يتنامى من خلالها المعنى بما يشبه الترقيد، وفضاء كتلي تتضايف فيه بعض أمكنة النص مع معاني توجد خارج النص المتحقق لكي تشكل معها سديما من المدلولات.
أما من زاوية الخصائص المميزة، فإن الإيحاء هو الضمانة على انتشار المعاني ( وهو انتشار محدود )، فالإيحاء ينساب فوق المساحة المرئية للنص كغبار من ذهب ( إن المعنى من ذهب ).
ومن الناحية السميولوجية، فإن كل إيحاء هو تمييز لسنن ( سنن لا يمكن أبدا إعادة بنائه) ومفصلة لصوت ينسج داخل النص.
ويعد الإيحاء من الناحية الديناميكية، قهرا مسلطا على المعنى، والإيحاء إمكان لهذا القهر ( إن المعنى قوة ).
أما من الناحية التاريخية، فإن الإيحاء يؤسس أدبا للمدلول ( محدد تاريخيا) من خلال تسريبه لمعاني تبدو قابلة للمعاينة ( حتى وإن لم تكن من طبيعة معجمية).
أما وظيفيا، فإن الإيحاء، من حيث إنه يولد مبدئيا المعنى المزدوج، يشوش على صفاء الإبلاغ: إنه ” تشويش” إرادي تمت صياغته بعناية، وأدرج ضمن الحوار الخيالي للمؤلف والقارئ. وباختصار، يتعلق الأمر بإبلاغ مضاد ( إن الأدب هو كتابة منزاحة ومتعددة).
من الناحية البنيوية، فإن وجود نسقين من طبيعة مختلفة، التقرير والإيحاء، سيمكن النص من أن يشتغل باعتباره لعبا. كل نسق يحيل على الآخر حسب الحاجات التي يقتضيها وهم ما.
وفي الختام، فإن هذه اللعبة تضمن، من الناحية الإيديولوجية، للنص الكلاسيكي نوعا من البراءة : من بين النسقين التقريري والإيحائي، يعود النسق التقريري إلى ذاته ويصبح موسوما. إن التقرير ليس أول المعاني، ولكنه يوهم بذلك، وبهذا الإيهام، فإنه آخر الإيحاءت ( تلك التي تقوم فيما يبدو بتأسيس القراءة وغلقها)، إنه الأسطورة الكبرى التي يوهم النص، من خلالها، بأنه يعود إلى طبيعة اللغة، إلى اللغة كحالة طبيعية. ألا يبدو أن الجملة، كيفما كان المعنى الذي تحيل عليه، بعد التلفظ بها، تقول لنا شيئا بسيطا، شيئا حرفيا بدائيا : شيئا حقيقيا يتحدد كل ما يأتي بعده ( كل ما يأتي بعد، فوق ) باعتباره أدبا.
ولهذا السبب علينا، إذا كنا نريد أن نظل في محيط النص الكلاسيكي، أن نحافظ على التقرير، باعتباره آلهة قديمة، حذرة وماكرة، ومسرحية، مكلفا بتمثيل البراءة الجماعية للغة.
5 -القراءة، النسيان
أنا أقرأ النص. إن هذا التلفظ، المتطابق مع ” عبقرية” اللغة الفرنسية ( فاعل وفعل ومفعول) ليس دائما صحيحا. فبقدر ما يكون النص متعددا بقدر ما تكون كتابته لاحقة لقراءته. فأنا لا أخضعه لعملية حملية منبثقة عن كينونته التي أطلق عليها قراءة . ف ” أنا” ليست فاعلا بريئا وسابقا على النص، ويقوم لاحقا باستعماله باعتباره موضوعا يجب تفكيكه أو مكانا يجب احتلاله.
إن هذه ” الأنا” التي تقترب من النص، هي قبل ذلك نسيج من النصوص والأسنن التي لا تعد ولا تحصى. أو بتعبير دقيق : إنها أسنن ونصوص ضائعة ( لا نعرف أصلها ). إن الموضوعية والذاتية هما بالتأكيد قوتان قادرتان على الاستحواذ على النص، ولكن لا ألفة بينهما وبين النص. إن الذاتية هي صورة ممتلئة، يُفترض أنني أحشو بها النص، إلا أن هذا الامتلاء، وهو امتلاء مزيف، ليس سوى آثار لكل الأسنن التي توهمني أن ذاتيتي تمتلك عمومية كل النسخ المسكوكة. أما الموضوعية فهي عملية ملء من نفس الطبيعة : إنها نسق متخيل مثله مثل الأنساق الأخرى ( إلا أن فعل الخصي منغرس أكثر فيها)، إنها صورة تمكنني من أن أعين نفسي بشكل أفضل، وأعرِّف بنفسي أو أتجاهل نفسي. إن القراءة لا تحتمل مخاطر الذاتية ولا الموضوعية ( فكلاهما يحيل على عالم متخيل ) إلا إذا كنا نرى في النص موضوعا تعبيريا ( يمنح لتعبيريتنا ذاتها ) يختفي في تلابيب أخلاق الحقيقة، تكون هذه الأخلاق في الحالة الأولى متسامحة، وفي الحالة الثانية زاهدة.
ومع ذلك ، فأن تقرأ ليس أمرا زائدا، إن فعل القراءة ليس إضافة ارتكاسية لكتابة نقوم بإحاطتها بمظاهر الفخامة التي يولدها الإبداع والأقدمية. إن الأمر يتعلق بعمل ( ولهذا يستحسن الحديث عن فعل لكسيولوجي بما أنني أكتب قراءتي)، ومنهجية هذا العمل هي من طبيعة مكانية : أنا لست مختفيا داخل النص، فقط لا يمكن الكشف عني داخله : إن مهمتي هي تحريك وزحزحة الأسنن التي لا يتوقف فيها زبون محتمل لا عند النص ولا عند ” الأنا” : ومن الناحية الإجرائية، فإن المعاني التي أعثر عليها ليست بادية لا من خلال “الأنا” ولا من خلال “آخرين”، بل هي كذلك بفضل وجود إشارات نسقية : لا وجود لدلائل أخرى على قراءة ما سوى جودة وصلابة نسقيتها. وبعبارة أخرى، باشتغالها. فأن تقرأ، هو بالفعل عمل تقوم به اللغة. أن تقرأ معناه العثور على معاني، والعثور على معاني معناه أن تسميها؛ إلا أن هذه المعاني التي تمت تسميتها تُقاد إلى أسماء أخرى.
إن الأسماء تستدعي بعضها البعض وتتجمع ويتوق تجمعها أن يسمى من جديد. : إنني أسمي وأعين، وأسمي من جديد، وهكذا يتشكل النص، إنها تسمية مستمرة وعملية اقتراب، لا تكل، وعمل كنائي. إن نظرة على النص المتعدد تؤكد أن نسيان المعنى لا يمكن أن ينظر إليه باعتباره خطئا. فما هو موضوع نسياننا ؟ ما هو مجموع النص ؟ قد ننسى معاني كثيرة، إلا أن ذلك ممكن فقط في حالة اختيارنا أن ننظر نظرة خاصة إلى النص. ورغم ذلك ،فإن القراءة لا تكمن في إيقاف سلسلة الأنساق، وتأسيس حقيقة وشرعية للنص وبالتالي الوصول إلى إثارة ” أخطاء” القارئ. إن القراءة هي تحريك هذه الأنساق، على أن يتم ذلك وفق تعددية هذه الأنساق ( التي تعد كائنا لا رقما) : أمر، أعبر وأمفصل وأثير بدون حساب. إن نسيان المعنى ليس مادة لأي عذر، أو عيب بئيس في الإنجاز، إنه قيمة تأكيدية، وطريقة في إثبات لامسؤولية النص، وتعددية الأنساق ( إذا حدث وأغلقت اللائحة، فإنني سأشيد معنى مفردا لاهوتيا ) : فمرد قراءتي أنني دائم النسيان.
6 – خطوة خطوة
إذا كنا نود أن نظل حريصين على تعددية النص ( رغم محدوديته )، علينا أن نتخلى عن القيام ببنينة هذا النص من خلال كلية، كما كانت تفعل البلاغة القديمة والشرح المدرسي : لا بناء للنص، فكل شيء يدل باستمرار ولمرات عديدة، ولكن دون أن يكون ذلك اعتمادا على مجموع كلي وبنية نهائية. ومن هنا جاءت فكرة، وإن شئنا ضرورة، تحليل مطرد ينصب على نص فريد. ولهذا بعض المساوئ وبعض المزايا. إن التعليق على نص واحد ليس نشاطا عرضيا يبحث في ” الملموس” عن عذر له : إن النص الفريد يعادل كل نصوص الأدب، لا لأنه يعد نموذجا لها ( إنه يجردها ويساوي بينها)، ولكن لأن الأدب ذاته ليس سوى نص واحد : إن النص الفريد ليس منفذا ( استقرائيا ) يقود إلى نموذج، بل هو مدخل لشبكة متعددة المداخل. إن تعقب آثار هذا المدخل معناه النظر بعيدا، وعوض الوصول إلى بنية شرعية من المعايير والانزياحات، أو قانونا سرديا أو شعريا، نروم منظورا ( جزئيات، أصواتا آتية من نصوص أخرى وأسننا أخرى )، يتم دائما تأجيل نقطة استهرابه *، فهو مفتوح بشكل غريب : إن كل نص ( فريد) هو النظرية نفسها ( وليس مجرد مثال ) الخاصة بهذا الاستهراب ولهذا الاختلاف الذي يتردد باستمرار دون أن يكون متطابقا مع نفسه.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الاشتغال بهذا النص من خلال أبسط جزئياته، معناه مواصلة التحليل البنيوي للمحكي من النقطة التي توقف عندها هذا التحليل : أي عند البنيات الكبيرة؛ يجب أن نعطي لأنفسنا القدرة ( الوقت والحرية ) لتسلق حبال المعنى، علينا ألا نترك أية بؤرة من بؤر الدال دون تحسس السنن أو الأسنن التي قد تكون هذه البؤرة منطلقها ( أو منتهاها) وهو ما يعني إحلال نموذج آخر محل النموذج التمثيلي( أو على الأقل تمني ذلك والعمل على تحقيقه )، وسيكون نمو هذا النموذج ضمانة على ما يمكن أن يكون منتجا في النص الكلاسيكي. ذلك أن طريقة “الخطوة خطوة” ببطئها وتبعثرها أيضا، تجنبنا الدخول إلى النص الوصي وقلبه، كما تجنبنا إعطاء صورة داخلية عنه : إنها ليست شيئا آخر سوى تفكيك عمل القارئ ( بالمعنى السينمائي ) : إنه حركة بطيئة فلا هو بصورة ولا تحليل تماما : إنه مدرج في كتابة التعليق ذاته، وعلينا أن نلعب بشكل متواصل على الاستطراد ( وهو شكل لم يستطع الخطاب العلمي أن يستوعبه بشكل جيد ) ومراقبة تقلب البنيات التي نسج منها النص.
وبالتأكيد، فإن النص الكلاسيكي ليس متعدد الجوانب بشكل كامل ( إنه معتدل التعدد) : إن قراءة هذا النص تتم وفق ترتيب إلزامي يشكل تحليله التدريجي نظام كتابته بالضبط. إن التعليق عليه خطوة خطوة، معناه بالضرورة تجديد مداخل النص وتجنب المغالاة في بنينته، وتجنب منحه هذا الفائض من البنية الذي يأتيه من تحرير معين ويغلقه : يجب نثر النص لا جمعه.
7 – النص المتناثر
سنعمل إذن على نثر النص، وسنضع جانبـــا، بما يشبه الهزة الخفيفة، كتل الدلالة التي لا تمسك القراءة منها سوى بالمساحة الملساء التي يوحد بينها تدفق الجمل، وانسياب خطاب السرد، والمظهر الطبيعي للغة العادية. وسيجزأ الدال الوصي على سلسلة من الأجزاء الصغيرة المتجاورة التي سنسميها هنا مقطع (lexie) * ، لأنها تشكل وحدات للقراءة. إن هذا التقطيع اعتباطي، وهذا أمريجب الإعلان عنه. فهو لا يستدعي أية مسؤولية منهجية لأنه ينصب على الدال في حين أن موضوع التحليل هو المدلول فقط. وسيشتمل المقطع أحيانا على كلمات قليلة، وأحيانا على جمل، والمسألة هي مسألة ملاءمة. والشرط الوحيد هو أن يكون هذا المقطع أفضل فضاء نتأمل فيه المعنى. إن حجمها، الذي يمكن تحديده بشكل ملموس، مرتبط بكثافة الإيحاءات التي تتغير بتغير لحظات النص. وما نبتغيه هو أن لا يكون للمقطع الواحد أكثر من ثلاثة أو أربعة معاني. إن النص من حيث هو كتلة، شبيه بالسماء، مسطح وعميق في الآن نفسه، أملس وبلا تخوم ولا نقط استدلال تماما كما يفعل العراف عندما يشق السماء برأس عصاه راسما مستطيلا وهميا ليتساءل، وفق مبادئ بعينها، عن تحليق العصافير. إن المعلق يحدد على المدى الذي يحتله النص مناطق للقراءة كي يراقب هجرة المعاني وانبثاق الأسنن ومرور الاستشهادات.
إن المقطع ليست سوى غطاء لحجم دلالي، إنها الخط الذي يعين ذروة النص المتعدد، إنها معدة تماما كما لو أنها دكة من المعاني الممكنة ( ولكنها منتظمة ومثبتة من خلال قراءة نسقية ) تحت دفق الخطاب : وبذلك يشكل المقطع بوحداته مكعبا بواجهات تغطيها كلمة أو مجموعة من الكلمات، أو جملة أو فقرة. وبعبارة أخرى تغطيها اللغة باعتبارها وعاء “طبيعيا”.
8 – النص المهشم
ما سيتم تسجيله سيكون من خلال تلك التمفصلات المصطنعة أي نقل وتكرار المدلولات. إن الاستخلاص المتواصل لكل مدلولات المقطع، لا يروم إثبات حقيقة للنص ( بنيته العميقة أو استراتيجيته )، بل يروم تحديد تعدديته ( حتى وإن كانت شحيحة ). ولن يتم تجميع وحدات المعنى (الإيحاءات ) المنتشرة في كل مقطع على حدة وإعطاؤها معنى جامعا، سيكون هو البناء النهائي الذي نمنحه لهذه الوحدات ( فقط سنولي اهتماما أكبر، لبعض المتتاليات التي كان من الممكن أن يؤدي النص الوصي إلى ضياع الخيط الرابط بينها وبين ما سيأتي).
ولن نقوم بعرض نقد نص ما، أو نقد لهذا النص، إننا سنقترح المادة الدلالية ( منقسمة ولكن غير موزعة ) لمجموعة من المناهج النقدية ( النقد البسيكولوجي والتحليل النفسي والتاريخي والبنيوي)، وعلى كل نقد ( إذا رغب في ذلك ) أن يلعب بعد ذلك لعبته، وأن يسمع صوته الذي ليس سوى إنصات لصوت من أصوات النص.
إن ما نبحث عنه هو إحاطة أولية بالفضاء المجسم لكتابة معينة( ويتعلق الأمر هنا بكتابة كلاسيكية منقرأة). إن التعليق القائم على إثبات التعددية لا يمكن أن “يحترم” النص. إنه سيعمل على تهشيم النص الوصي باستمرار، وسيتم توقيفه دونما اعتبار لتقسيماته الطبيعية ( التركيبية البلاغية،الحدثية ) وسيكون بإمكان الجرد والشرح والاستطراد التسرب إلى قلب التشويق، سيتم فصل الفعل عن المفعول والاسم عن محموله. إن العمل الذي يقوم به التعليق يكمن بالضبط في إرهاق النص، ومقاطعته، ومع ذلك فما يتم نفيه ليس النوعية الخاصة بالنص ( لا يمكن مقارنتها هنا )، وإنما يتم نفي جانبه “الطبيعي”.
9- كم من القراءات ؟
علينا أن نقبل أيضا باختيار أخير : أن نقرأ النص كما لو أنه قرأ من قبل. وبالتأكيد، سيكون باستطاعة أولئك الذين يحبون الحكايات الجميلة أن يبدأوا من النهاية، وأن يقرأوا في البدء النص الوصي، المعطى في الملحق في صفائه وامتداده كما تلقي به آلية النشر، وباختصار كما يُقرأ عادة. ولكن لن نستطيع، نحن الذين نبحث عن تعددية النص، إيقاف هذا التعدد عند أبواب القراءة : فهذه القراءة ذاتها يجب أن تكون متعددة، أي لا تحتاج إلى إذن بالدخول. إن الصيغة ” الأولى ” لقراءة ما يجب أن تكون هي الصيغة الأخيرة، كما لو أن النص تمت إعادة صياغته لكي يتحول إلى صنيع بلا حدود، وسيمنح الدال حينها بعد إضافيا : الانزياح.
إن إعادة القراءة، وهي عملية منافية للتقاليد التجارية والإيديولوجية لمجتمعنا التي تلح على “التخلص” من القصة بمجرد استهلاكها ( ” التهامها” ) للمرور إلى قصة أخرى، وشراء كتاب آخر. إن هذه العملية مسموح بها فقط لبعض الفئات الهامشية من القراء ( الأطفال، والعجزة والأساتذة ). ونحن نقترحها هنا دون تردد باعتبارها الوحيدة القادرة على إنقاذ النص من التكرار ( إن أولئك الذين يهملون إعادة القراءة سيضطرون إلى قراءة نفس القصة في كل الكتب )، إنها تضاعف النص في اختلافه وتعدديته : إنها تخرجه من دائرة الكرونولوجيا الداخلية ( ” وقع هذا قبل أو بعد ذلك ” ) لتعثر على الزمن الأسطوري ( دون قبل أو بعد )؛ إنها ترفض الادعاء الذي يحاول أن يجعلنا نعتقد أن القراءة الأولى هي أول قراءة، قراءة ساذجة ومثيرة، ولن يكون علينا فيما بعد سوى “شرحها” ومنحها صبغة ثقافية ( كما لون أن هناك بداية للقراءة، كما لو أن كل شيء قُرئ : لا وجود لقراءة أولى، حتى ولو حاول النص إيهامنا عبر مجموعة من إشارات التشويق والصنائع ذات الطابع الفرجوي وليس الإقناعي). إن القراءة ليست استهلاكا وإنما هي لعب ( إن هذا اللعب هو بؤرة الاختلاف ). وبناء عليه، إذا كان هناك من تناقض إرادي في المصطلحات، فإننا نعيد قراءة النص توا وذلك للحصول، كما هو الحال عندما يتعلق الأمر بتأثيرالمخدر ( تأثيرات البداية والاختلاف )، لا على النص ” الحقيقي”، وإنما للحصول على النص المتعدد : الشبيه بنفسه والجديد في الآن نفسه.
————————————–
الهوامش
* النص الذي نقدم ترجمته هنا هو المقدمة التي وضعها رولان بارث بارث لدراسته الشهيرة لقصة قصيرة للكاتب الفرنسي بلزاك، وقد نشرت هذه الدراسة في كتاب تحت عنوان S/Z. وقد نشر الكتاب سنة 1970، وهو في الأصل ثمرة عمل تدريسي دام سنتين 1968 – 1969 في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا.
* point de fuite : الاستهراب ويعين النقطة التي تنتهي عندها كل الخطوط في رسم ما.
* لم نتوصل إلى إيجاد كلمة عربية تكون مقابلا للكلمة الفرنسية lexie ولذلك آثرنا مؤقتا على الأقل أن نترجمها بمقطع، ما دام المقطع يشير، في التحليل السردي، إلى إمكانية تقطيع النص إلى وحدات للقراءة، وهو نفس المعنى الذي يعطيه بارث لlexie.
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=7026