ثلاث لحظات في تاريخ الشعرية أرسطو وحازم وجاكبسون

Bengrad
2021-06-04T11:24:33+00:00
العدد الثالث عشر
17 أغسطس 2020942 مشاهدة

محمد الولي

لا يخفى على المبتدئ في مجال تاريخ الأفكار وتاريخ الأدب أن أرسطو كان أول من أقام صرحي علم الشعر وعلم الخطابة. ولقد كان حرصه على تأسيس هذين العلمين جزءا من برنامجه التربوي السياسي الأخلاقي. بل إن هذا البرنامج كان فيما يبدو لي جزءا من نزوعه الديموقراطي. ولأمر ما كان يرى الشعر والخطابة، خلافا لأستاذه أفلاطون الميال إلى الحكم الفردي، أداة لتكوين المواطن الحر.

فما هي الخطابة؟ إنها في رأيه فن العثور على ما يسمح بالإقناع في مقام ما. أو هي، بالمعنى المحصور للمصطلح، فن الاقناع في المقامات السياسية الثلاثة: في المحاكم القضائية وفي التجمع الشعبي وفي المجلس الحاكم. في المقام الأول تقوم الخطابة القضائية وفي الثاني تقوم الخطابة الاستشارية وفي الثالث تقوم الخطابة الاحتفالية.

ويقوم كل جنس من هذه الأجناس الخطابية الثلاثة على جنس خاص من الحجج ومن الترتيب ومن الأسلوب. وبشكل بالغ الاختصار فإذا كنا نواجه في الخطابة القضائية تبادل الاتهام والدفاع واعتماد الحجج لأجل الاتهام والتبرئة والسعي في الترتيب إلى احترام حلقات النظام القائم على الافتتاح وعرض الهيكل والعرض والحجاج والتلخيص فالاختتام، فإننا في الخطابة الاحتفالية قد نستغني عن العرض وعن الحجاج إذ أننا كلنا عارفون بالموضوع كما أننا متفقون على الموقف. إن من يحضر في هذه الحالة لا يحضر إلا لأجل التنويه بالمحتفى به. وتعوض كل الأدوات الحجاجية القياسية بالأدوات التفخيمية، كما يركز الأسلوب على العبارات التزيينية الجمالية. وهذا يعني في الخطابة أن المقامات التي اهتم بها أرسطو هي مقامات محصورة لا تتخطى في عددها الرقم ثلاثة. وإذا كان قد اكتفى بتحليل هذه المقامات الثلاثة فإن العلم الحقيقي للخطابة يسعى اليوم إلى الاحاطة بكل أجناس الخطاب الإقناعي. سواء تعلق الأمر بخطاب الدعاية السياسية أو تعلق بالاشهار أم تعلق بخطاب الجامعيين في المدرجات أم تعلق بخطاب المتعاشقين أم تعلق بخطاب التفاوض السياسي أم خطاب العنصرية أم خطاب غسل الدماغ أم بخطاب العلوم الإنسانية أم بخطاب الحملات الانتخابية.

حينما تبلغ الخطابة هذه الدرجة من الكفاءة نستطيع حينئذ أن ننعتها بالبلاغة العامة. وإلى ذلك الحين لا خيار لدينا من إقامة بعض التحاليل المتعلقة ببعض الأجناس من الخطاب. وحينما نستهلك قدرا كبيرا من هذه الأجناس الخطابية حينئذ نستطيع أن ندعي الأهلية في إقامة بعض المبادئ العامة بل القابلة للتعميم.

إننا نتذكر جميعا موقف أفلاطون من الشعر. فقد اعترض عليه، كما اعترض على الخطابة، لعدة أسباب. إنه يتنكر للحقيقة كما أنه يثير الانفعالات. هذا الموقف هو الذي تفرغ له أرسطو لكي يفنده. ينبغي في البداية التذكير بالتقسيم الأرسطي لأجناس الشعر. إنها الغنائي والملحمي والدرامي. وفرع هذا الأخير إلى التراجيدي والكوميدي. على أن الجنس الذي حظي بتمجيد أرسطو هو التراجيدي. وسبب ذلك بطبيعة الحال هو أن هذا الجنس مرتبط بالحاضرة الأثينية البلدة الديموقراطية المناهضة للاستبداد البائد. أي الحاضرة الدولة التي تحكم نفسها بنفسها. والواقع أن العصور السابقة قد تعتمد على فن الشعر الغنائي الذي اختص بمدح الملوك وتبربر طغيانهم. هذا هو السبب السياسي الذي دفع أرسطو إلى الاعتراض على الشعر الغنائي. والحقيقة هي أن أهم ما ورثناه عن أرسطو يتعلق بهذا الجنس السردي المدعو تراجيديا.

وعلى الرغم من تسليم أرسطو بأن التراجيديا تتألف من عناصر ستة هي: 1 – القصة أو حدث التراجيديا، 2 – والأخلاق أو طبائع الشخصيات وملامحها المميزة، 3 – واللغة أو العبارة والأسلوب 4 – والنشيد أو الغناء، 5 – والمنظر أو الإخراج، 6 – والفكر. فإنه لم يتوان في التأكيد أن :

> مبدأ بل روح التراجيديا هو القصة؛ أما الطبائع أى رسم الشخصيات] فتأتي في المرتبة الثانية ( والواقع أن هذا شبيه بما يحدث في الرسم: وذلك حينما يعمد رسام باستعمال عشوائي لأجمل المواد، فالنتيجة قد لا يكون لها نفس السحر الذي تحدثه صورة مرسومة بالأبيض والأسود) وذلك أن الأمر يتعلق قبل أي شيء بتمثيل فعل وتبعاً لهذا وحده، بتمثيل أناس يفعلون.<(1)

إن هذا يعني أن رسم الشخصيات لا ينبغي أن يختص بعناية كبيرة، لأن ذلك يمكن أن يؤدي بالحدث إلى الركود وتوقف الفعل. وهذا التوقف ينال من أهم عنصر في التراجيديا ألا وهو الحدوث.

على أن الحدوث في التراجيديا الذي يتطور وفق مبدأي الاحتمال والضرورة يعني عرض ما يمكن قبوله لدى المتلقي وعرض ما يؤلف كلا متماسكا تماسكا داخليا. وهذا يعني أن الأجزاء تكون عبارة عن سلسلة متوالية يأخذ بعضه برقاب بعض. إن الحدث إذا كان غريباً في موقعه يجعل منه عامل تفكك وعرض أمشاج متمانعة من الأحداث كما قد نلاحظ في العروض التاريخية للأحداث. ولهذا فإن الأحداث التاريخية هي أحداث عرضية. يسميها أرسطو إِيبىِزُودِيكْ. بمعنى أن الحدث العرضي يمكن بتره دون أن يؤثر ذلك على السير العام للنص التراجيدي. إن الحدث التراجيدي أو السردي هو ذلك الذي يترتب على حذفه انهيار النص كله. وإذا كان التاريخ أحداثاً عرضية إِبِيزُودِيكْ فذلك يعود إلى غياب عنصر الضرورة الداخلية من جهة وإلى تعذر اندراجه في كليات. أي هياكل عامة. وهذا هو الذي يجعل التراجيديا أي الشعر أوفر حظاً من الفلسفة ومن التاريخ. وهنا يوجه أرسطو، مرة أخرى نقداً لاذعاً إلى أستاذه أفلاطون الذي تنكر للشعر لبعده عن الكليات الفلسفية. وهذه الفكرة جديرة بأن تثير فضول علماء الشعرية المعاصرين.

ومع ذلك لا ينبغي التوهم بأن الأحداث وحدها هي التي تكون لُحمة وسَدى النص التراجيدي. إن وحداته هي: 1 – التقديم، 2 – النشيد، 3 – الحدث، 4 – النشيد، 5 – الخاتمة. يقول أرسطو:

>إن الافتتاح البرولوج هو جزء من التراجيديا المشكل لكلية تتقدم وصول الجوقة، والحدث هو الجزء المشكل لكلية تتخذ لها موضعاً بين نشيدي الجوقة المشكلين هما معاً كلية؛ الخروج وهو يشكل كلية غير متبوع بنشيد الجوقة.<(2)

اللافت أن الوحدات السردية في التراجيديا ثلاثة هي الافتتاح والحدث والخاتمة. وهي لا تصل إلى العدد خمسة إلا بتوسيط النشيد بين الافتتاح والحدث ثم بين الحدث والاختتام. وهذا العدد هو نفسه عدد الوحدات الخطابية وهي الافتتاح والعرض أو الحجاج والخاتمة. وضمن هذه الوحدات الخمس وحدتان غنائيتان هما النشيد الذي يلي التقديم، والنشيد الذي يتقدم الخاتمة. الواقع أن التراجيديا لم تصف كل الإرث الغنائي فما تزال تحتفظ في ثناياها بهذه البقايا الغنائية التي وظفتها هذا التوظيف الجديد. وتبعاً لذلك فإن أرسطو احتفظ في نظريته الشعرية بهذا الإرث العريق. وعلى الرغم من أن أرسطو قد شدد على اعتبار التعاقبية الحدثية هي الأساس، فإنه لم يعتن بالجانب اللغوي، وهذا مفهوم إذ أنه يتصور الحدث التراجيدي هو الأساس محكياً في أىة لغة. إن الأساس هو التعاقبية الحدثية وكأن الأمر يتعلق بشريط يمكن أن يستغني عن اللغة. ويمكن أن ينتقل من لغة إلى أخرى دون أن ينال ذلك من النص الحكائي. بل إن هناك من يطعن في الأجزاء20 و 21 و22 التي خص بها أرسطو اللغة في شعريته. وعلى الرغم من أنه يؤكد أن الإخراج أو المنظر لا علاقة له بفن الشعرية كعلم مستقل، فإنه لم يتردد في التأكيد أن الغناء يعتبر من أهم المزينات، رغم أن هذا الغناء يمكن من وجهة نظر شعرية، وبالانسجام مع التصور الأرسطي العام أن يقال إنه هو أيضاً غريب عن الشعر. ويبدو أن تبجيله لهذا التقليد اليوناني في الموسيقي هو الذي جعله ينظر بعين التقدير إلى الموسيقى في المسرح. يقول أرسطو:

>أما بالنسبة إلى باقي المكونات فإن الغناء هو أهم المزينات للتراجيديا. أما بالنسبة إلى المنظر أى الإخراج] فإنه لا يمت بصلة إلى صناعة التراجيديا ولا علاقة له بالشعرية.<(3)

هذه الأجزاء الثلاثة يمكن أن تمتد إلى خمسة. فإذا كنا نتوفر في التراجيديا على بدء أي برولوكوس ووسط أى إيبيزوديون ونهاية أى إىكسودوس، فإن هذه هي الأجزاء الأساسية المكونة. وهذه يمكن أن تضعف بمجموعة من الإيبيزوديا أى الأحداث الوسيطة. وحينما تبلغ هذه الأحداث ثلاثة فإننا نصل بالتراجيديا إلى خمسة أجزاء. وبهذا فإن أول الوسط ووسطه يجسدان حالة توتر دينامي. في حين أن نهاية الوسط تمثل ما يدعوه سكاليجير كتاستسيس وهو نتيجة الإيبيتاسيس. والواقع أن وسيطين إيبيزوديين زائدين يعوضان حلقتين إنشاديتين في الشعرية الأرسطية.

وهناك من يخص هذه الأجزاء الوسيطة الثلاثة بنفس تسمية إيبيزوديون. وعلى هذا الأساس فإن سكاليجير يميز في التراجيديا أربعة مراحل ، وهي بروتاسيس أو الافتتاح التعريفي والإيبيتاسيس وهو تعقد المشكل أو الحبكة والكتاستسيس أو نتيجة التعقد والثبات الحدثي. والكتاستروفي أو انفراج المشكل. وهذه العناصر الأربعة يمكن تجميعها في اثنين هما ديسيس وهي تستقطب الافتتاح وتعقد الحبكة ونتيجة الحبكة الثابتة واللوسيس أي الانفراج وهي مرادف إيكسودوس أو كتاستروفي. (4)

ينبغي التنبيه ههنا على أمر هام هو أن هذه السلسلة المتوالية من الأحداث تمثل نظرية أو تصوراً خطابياً مكتملاً. والجدير بالعناية أىضاً أن نظريات نحو النص كثيراً ما تجاهلت هذا الإرث المهتم بتحليل الخطاب الموروث عن أرسطو. إنا كثيراً ما سمعنا أن نظرية تحليل النص هي نظرية حديثة، في حين أن الحقيقة ليست كذلك. إن النظرية التي أقامها فلاديمير بروب في مجال تحليل الحكاية العجبية ليست متعارضة من حيث المنهج عن التصور الأرسطي أو الموالي لأرسطو. وما يقال عن الشعرية هنا يمكن أن يقال عن تحليل الخطاب أو النص في خطابة أرسطو. بل الغريب هو أننا ربما لاحظنا عمقاً في التصور الأرسطي نعدمه في تصورات المتأخرين من علماء الشعرية. من هذه الأمور العميقة مفهوم الفعل البسيط والفعل المركب ومفهوم التحول ومفهوم التعرف ومفهوم التطهير ومفهوم معيار الجمال. كل هذه الأمور جديرة بأن تنزل أرسطو إلى جانب المعاصرين من علماء. ويحتفظ لنفسه مع ذلك بشرف السبق والتقدم.

والحدث في انثياله من البداية إلى النهاية يتطور من السعادة إلى الشقاء. وهذا التحول للحدث هو الذي يجعله فعلاً مركباً، متعارضاً مع الحدث البسيط الذي لا يمكن أن يكون موضوع عمل شعري.

وهذا التطور ينبغي أن يقوم في حيز قابل للاحتفاظ به الذاكرة بحيث نتمكن من الإحاطة به بسهولة. إنه حدث له طول معين أي طول معتدل ليس بالغ الطول كما هو الأمر بالنسبة إلى الملحمة. الطول يخنق الذاكرة فلا نتمكن من التحكم في النص، وتبعاً لذلك فلا يحقق نموذج الجمال إذ الأشياء الكبيرة جداً لا نجدها جميلة، شأنها في ذلك شأن الأشياء الصغيرة جداً التي تدرك في لمحة خاطفة. هذا المثال الأعلى للجمال تحققه التراجيديا. فهي تبعد باختصارها عن الملحمة كما أنها تبتعد عن الأحداث البسيطة التي لا تحقق المثل الأعلى الجمالي. النص التراجيدي طويل إلا أن الذاكرة تستطيع أن تتحكم فيه. وهو غير بسيط، بمعنى أن الذاكرة تنتقل معه من حال إلى أخرى بسبب التركيب. هذا الامتداد في التراجيديا هو في الواقع امتداد حدثي وليس لفظياً وحسب. فالغنائي يمكن أن يكون طويلاً أيضاً ولكن الغنائي لا يعرض حدثاً مسترسلاً، كما تفعل التراجيديا. هذه الخاصية الحدثية أساسية في التراجيديا.

وكما يكون هذا التحول ناتجاً عن تغير حدث من السعادة إلى الشقاء كما قد يكون تحولا في اتجاه اكتشاف معرفي. في التحول الأول نكون شهوداً على تغير حدثي وفي الثاني نكون شهود اكتشاف معرفي لحدث ما. أفضل مثال يمكن تقديمه في هذا المقام هو الرواية البوليسية. إن الحدث قد تم منذ الوهلة الأولى وما نشهد عليه هو مجرد اكتشاف الحقيقة. إن هذا تعرف إذن. في الرواية البوليسية لا شيء يحدث. إذ الأمر يتعلق ببحث عن المعرفة. في الأول نواجه فعلاً وفي الثاني تعرفاً. على أن هذا الحدث لكي يكون شعرياً ينبغي أن يكون تحولا في اتجاه الانتقال من السعادة إلى الشقاء. وهذه السعادة وهذا الشقاء هما سعادة وشقاء أشخاص. ولكن ليس أي شخص. لص مثلا حينما يلقى عليه القبض ويزج به في السجن. إن هذا المصير لا يبعث الأسى بل ربما بعث الفرح وهذا لا علاقة له بالإحساس التراجيدي. إن البطل التراجيدي شخص طيب ومن علية القوم. شخص يتعرض لهذا التحول بشكل ظالم. بمعنى أن البطل يتعرض لمصير غير مستحق بسبب خطإ غير مقصود يرتكبه غير مرغم وبكامل الحرية. بل ربما حاول جاهداً تجنب الوقوع في هذا الخطإ. وهذا المصير قد يكون قاتلاً. وليس أى قتل بل قتل يحدث بين أشخاص تقوم بينهم علاقة قرابة عائلية. بين الأخ وأخيه والأم وابنها والأب وابنه. إن الجريمة التي تقوم بين هذه العناصر مدعاة لتألم وتحسر شديدين. وهذا المآل يثير في المتلقي الٌإحساس بالرعب لهول حدث قتل الأب مثلاً وبالشفقة لأن ذلك حصل بدون قصد إلى ارتكاب مثل هذا الجرم. تماماً كما حدث لأوديب، في مسرحية أوديب ملكاً لسوفوكل. وهذان انفعالان متكاملان. الأول ينصرف إلى جريمة القتل والثاني ينصرف إلى الضحية.

هذه المعاناة الانفعالية تؤدي إلى التطهير أو الكتارسيس. التطهير بالنسبة إلى أرسطو هو تطهير علاجي أو نقاهة الروح والنفس. وهذا جزء من البرنامج التربوي الأرسطي في الحاضرة الأثينية مهد أول تجربة ديموقراطية. هذا التطهير هو تطهير النفس وتصفيتها. وهذا الإجراء العلاجي للنفس لا يُسند إلى التراجيديا وحدها بل إن الموسيقى هي بدورها تضطلع بهذه المهمة التربوية. تربية روح المواطن. لجعله مواطناً جديراً بمكانته. وهذا البرنامج الروحي قرين البرنامج التربوي الخطابي. أليست الخطابة موجهة لتكوين المواطن الذي يضطلع بدوره في مؤسسات الدولة الثلاث. وبطبيعة الحال فإن هذا البرنامج يتسع لكي يشمل التربية الجسدية. ومن يطلع اليوم على مخططات الملاعب الرياضية اليونانية يصب بالدهشة. ويتحسر للتخلف الذي صرنا إليه نحن بعد خمسة وعشرين قرنا.(5)

على أننا لا ينبغي أن تفوتنا فرصة توضيح؛ ففي الوقت الذي يعترض أفلاطون على الفنون التي تثير العواطف والأهواء ومنها التراجيديا فإن أرسطو يعتبر هذه الفنون وسائل تطهير علاجي للروح. إن التراجيديا هي من هذه الناحية شبيهة بفن العزف على الناي الذي يثير في المستمعين الأثر التطهيري للانفعالات المناسبة لها. إن نفس المشاهد الذي لا يشارك في ممارسة وإنجاز هذا الفن فإنه باعتباره متأملاً يحس ويختبر تطهيرا عاطفيا.

هنا تلتقي التراجيديا مع الموسيقى التي تعتبر من الفنون والصناعات السبع التي تلقن للمواطنين الأحرار في جمهورية أثينا. وهذه الصناعات صنفان: الأول ذهني ويتمثل في الجدل والنحو والخطابة. والثاني عملي وهو الهندسة والفلك والرياضة والموسيقى.

وهكذا يتمكن أرسطو من إعادة الاعتبار للشعر وجعله قريناً للموسيقى بل مادة تربوية للمواطن الحر. والتراجيديا لم تعد مفسدة للأخلاق كما ذهب أفلاطون بل أداة تربوية إيجابية. علينا أن نتذكر موقف أفلاطون من الخطابة فقد رفضها لأنها مناهضة للفلسفة ومستندة إلى الرأي. إلا أن أرسطو برأها ونوه بها كما نوه بالشعر. فقد اعتبر الخطابة أداة أساسية في يد المواطن الحر المشارك في تسيير المدينة.

حازم القرطاجني

أو التصور العربي للشعر

1 – أصالة شعرية حازم وبلاغته

يمتاز الكتاب الشهير لحازم القرطاجني منهاج البلغاء وسراج الأدباء بكونه صياغة ونقدا فريدين لشعرية أرسطو ولخطابته. يندرج كتاب حازم ضمن إطار ثقافي متميز. يتمثل ذلك في كون الشعر العربي متميز تميزاً جذرياً عن الشعر الذي تحدث عنه أرسطو. ولهذا فقد كان كل المستلهمين لشعرية أرسطو يبتعدون عنه بسبب وجود هذا القيد. لقد أولت هذه الشعرية على ضوء الخصائص المميزة للشعر العربي. وهكذا على الرغم من النزوع الأرسطي عند حازم فقد كانت النظريات المعروضة في كتابي أرسطو الشعر والخطابة، عرضة لتعديلات جذرية تستجيب لطبيعة الشعر العربي. بل إنه قد قال في منهاج البلغاء :

> ولو وجد هذا الحكيم أرسطو في شعر اليونانيين ما يوجد في شعر العرب من كثرة الحكم والامثال والاستدلالات واختلاف ضروب الإبداع في فنون الكلام لفظا ومعنى، وتبحرهم في أصناف المعاني وحسن تصرفهم في وضعها ووضع الألفظ بإزائها، وفي إحكام مبانيها واقتراناتها ولطف التفاتاتهم وتتميماتهم واستطراداتهم وحسن مآخذهم ومنازعهم وتلاعبهم بالأقاويل المحيلة كيف شاؤوا لزاد على ما وضع من القوانين الشعرية.<(6)

2 – المعنى الشعري والخطابي

يبدأ حازم كتابه بالتمييز بين نوعين من المعاني. الأول >معاني صناعية< لا علاقة لها بالشعر والخطابة والثاني >معاني طبيعية<، منها تغترف الخطابة والشعر. يقول حازم: >فالمتصورات التي في فطرة النفوس ومعتقداتها العادية أن تجد لها فرحاً أو ترحاً أو شجواً هي التي ينبغي أن نسميها المتصورات الأصلية. وما لم يوجد ذلك لها في النفوس ولا معتقداتها العادية فهي المتصورات الدخيلة، وهي المعاني التي إنما يكون وجودها بتعلم وتكسب كالأغراض التي لا تقع إلا في العلوم والصناعات والمهن. فالمعاني المتعلقة بهذه الطرق الخاصة ببعض الجماهير لا تحسن في المقاصد العامة المألوفة التي ينحى بها نحو ما يستطيبه الجمهور أو يتأثرون له بالجملة. فإذا استعملت فيها فإنها معيبة لكونها دخيلة في الكلام بحسب الغرض. وإنما تكون أصيلة في الشعر إذا كان غرض الكلام مبنياً على محاكاتها وإيقاع التخييل فيها بالقصد الأول: فإن للشاعر أن يبني كلامه على تخيل شيء شيء من الموجودات ليبسط النفوس له أو يقبضها عنه.< (7)

ينتسب النوع الأول إلى المجالات العلمية أو الصناعية. بمعنى أن المعاني والمفاهيم والألفاظ تكون محصورة ضمن الدوائر الصناعية والعلمية. وينتسب النوع الثاني إلى دائرة الاستعمال اليومي المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحياة وبالذاتية الإنسانية وإلى كل ما يسره أو يشجيه. هذه المعاني هي تلك التي يتقاسمها كل الناس عامتهم وخاصتهم. إن المعاني المنتسبة إلى المجالات العلمية أو الصناعية تتسم بكونها مصنوعة، كما أن الألفاظ الدالة عليها تتمتع هي الأخرى بهذه الوضعية كما تمتاز بالدلالة الأحادية والاعتباطية والتنكر لدفق الحياة. إن معنى مجموع درجات زوايا المثلث هو 180 درجة لا يمكن أن يكون موضوع أثر شعري. شأنه في ذلك شأن المعاني الرياضية أو النحوية أو البيولوجية. ولهذا فإن المنظومات التي تصاغ فيها هذه المعارف لا يمكن أن ترقى إلى مستوى الشعر. إنها مواد ميتة وليست خاصة فحسب. المعاني محصورة والكلمات مصنوعة ومتكلسة لا أثر لدفق الحياة فيها.

أما المعاني الملازمة لدفق الحياة الإنسانية التي يجد فيها الإنسان ما يسره وما يشجيه، ما يحس معها الإنسان أنه عالق بذاتيته وما يكون مشتركاً بين كل الناس العامة والخاصة على حد سواء، فهي مادة الشعر. لا فرق في مجالي الشعر والخطابة بين الجمهور من الناس والخاصة. فإن المتلقي للشعر والخطابة ينبغي له إذا كان من الخاصة أن يتنكر لكل العلوم والصناعات التي يتملكها، أي ينبغي له أن يعود إلى الحالة الغفل التي يتساوى فيها مع كل الناس. إن الممارسة الفنية كما يفهم من كلام حازم، ممارسة طبيعية أو فطرية. هذه الحال هي التي ينبغي أن ينزل إليها المبدع والمتلقي. هذه المعاني الفطرية، من قبيل الحب والكراهية والحنين والغضب والطمع والفرح والغيرة والحسد والأريحية والشجاعة والجبن وغيرها من المعاناة العامة التي لا ينفرد بها إنسان عن آخر هي المرشحة للاستعمال في الشعر وفي الخطابة. وكأني بحازم يحاول إقامة الحدود الدلالية لمادة الشعر والخطابة. وهذا المجال كما نلاحظ، هو مجال الذات بكل ما يمكن أن يحركها ويثيرها، أي كل ما قد يحفزها أو ينفرها. وهذا هو المجال الذي تمتح منه الخطابة والشعر على حد سواء.

وعلى الرغم من أن حازماً يجمع بين المجالين الخطابة والشعر فإنه يميز بينهما من حيث الشكل لا المادة. الفارق بينهما هو أن الخطابة تسعى إلى التحفيز أو التنفير عن طريق الاقناع في حين يسعى الشعر إلى ذلك عن طريق التخييل. هذه هي المراجعة الأساسية لبلاغة أرسطو وشعريته. لقد طوعهما حازم لكي يجعلهما شكلين من أشكال الخطابة. أي الخطاب الذي يحث على فعل ما أو يزجر عنه. يقول حازم:

>ولما كان علم البلاغة مشتملاً على صناعتي الشعر والخطابة، وكان الشعر والخطابة يشتركان في مادتي المعاني ويفترقان بصورتي التخييل والإقناع وكان لكلتيهما أن تخيل وأن تقنع في شيء من الموجودات الممكن أن يحيط بها علم انساني وكان القصد في التخييل والاقناع حمل النفوس على فعل شيء أو اعتقاده أو التخلي عن فعله واعتقاده وكانت النفس إنما تتحرك لفعل شيء أو طلبه أو اعتقاده أو التخلي عن واحد واحد من الفعل والطلب والاعتقاد بأن يخيل لها أو يوقع في غالب ظنها أنه خير أو شر بطريق من الطرق التي يقال فيها إنها خيرات أو شرور.

…] وجب أن تكون أعراق المعاني في الصناعة الشعرية ما اشتدت علقته بأغراض الإنسان وكانت دواعي آرائه متوفرة عليه، وكانت نفوس الخاصة والعامة قد اشتركت في الفطرة على الميل إليها أو النفور عنها أو من حصول ذلك إليها بالاعتياد، ووجب أن يكون ما لم تتوفر دواعي أغراض الانسان عليها وما انفرد بإدراكه المكتسب الخاصة دون الجمهور غير عريق في الصناعة الشعرية بالنسبة إلى الممقاصد المألوفة والمدارك الجمهورية.(8)

3 – المعنى التخييلي أوالشعري

سنتفرغ هنا للحديث عن الكلام المخيل دون المقنع الذي نعتبر مجاله هو الخطابة. فما الكلام المخيِّلُ؟ إنه الكلام الذي تذعن له النفس . أي الكلام الذي تتأثر له تأثراً نفسياً لا عقلياً. وهذا التأثر لا يلتفت إلى جوانب الصدق والكذب فيه. بل ربما كان الكذب مدعاة إلى التأثر أكثر من الكلام الصادق. ولا يمكن التحدث عن المخيل من الكلام دون التطرق إلى الأدوات المخيِّلة. فعلى الرغم من التقاء الشعر والخطابة عند حازم باعتبارهما أداتين محفزتين أو زاجرتين، فإنهما يختلفان في الوسائل. هذه الوسائل هي التي تجعل من الشعر شعرا ومن الخطابة خطابة. فما المخيِّل إذن؟ يقول حازم نقلاً عن ابن سينا:

>والمخيِّل هو الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط لأمور أو تنقبض عن أمور من غير روية وفكر واختيار. وبالجملة تنفعل له انفعالاً نفسانياً غير فكري، سواء كان المقول مصدقاً به أوغير مصدق به. فإن كونه مصدقاً به غير كونه مخيِّلاً أو غير مخيِّل. فإنه قد يصدق بقول من الأقوال ولا ينفعل عنه؛ فإن قيل مرة أخرى أو على هيأة أخرى انفعلت النفس عنه طاعة للتخيل لا للتصديق. …] وللمحاكاة شيء من التعجيب ليس للصدق لأن الصدق المشهور كالمفروغ منه ولا طراءة له. والصدق المجهول غير ملتفت إليه. والقول الصادق إذا حرف عن العادة وألحق به شيء تستأنس به النفس فربما أفاد التصديق والتخيل معاً وربما شغل التخييل عن الالتفات إلى التصديق والشعور به.<(9)

ولكن كيف يحصل هذا ؟ إنه عبارة عن أن تتمثل للسامع من لفظ الشاعر المخيِّل أو معانيه أو أسلوبه ونظامه، وتقوم في خياله صورة أو صور ينفعل لتخيلها وتصورها، أو تصور شيء آخر بها انفعالاً، من غير روية، إلى جهة من الانبساط أو الانقباض.

وطرق وقوع التخييل في النفس: إما أن تكون بأن يتصور في الذهن شيء من طريق الفكر وخطرات البال، أو بأن تشاهد شيئاً فتذكر به شيئاً… <(10)

وهذا التخييل والاستحضار للصور في ذهن المستمع تقابله المحاكاة في ذهن المبدع. المحاكاة هي إبداع صور مرئية، أو حسية غير مجردة. هكذا فالمصطلحات: المحاكاة والتخييل والتصوير تحيل كلها على عالم الحسيات لا المجردات. على أن هذه المحاكاة وهذا التخييل لا يعني أن الأمر يتعلق بتكرار أو تزييف. إن كل واحد منهما يمكن أن ينتج أثراً جيداً. فالمحاكيات المطابقة(11) قد تنتج نصاً جميلاً. وذلك يعود إلى تقديم أمر له علاقة بالأغراض الإنسانية، ولكون المحاكاة تستعين هنا بأمور لفظية ووزنية وقفوية وأسلوبية. فهذه العناصر ليست في رأي حازم مجرد مسموعات إنها تحيل إحالة طبيعة على المعاني ذات المساس بالجانب الإنساني. وهذه الأمور لا يمكن اقتناصها باللغة النثرية والاعتباطية الدلالة.

4 – المقومات اللفظية والوزنية

على الرغم من مراعاة اللفظ واعتباره مقوماً شعرياً، خلافاً لأنصار المعنى، فإنه لا يعتبر التزيين اللفظي مجرد حلية جوفاء، بل إنه يعتبره حامل معنى لا يحمله النثر. فهذه المقومات اللفظية تشف بما لا يشف عنه القول النثري. وحازم يعارض بموقفه هذا التصور الشائع والمبتذل الذاهب إلى أن النثر شفاف في حين أن الشعر ثاخن ومعتم ولا يشي بشيء. ولا ينسب حازم هذا الامتياز إلى اللفظ وحده بل إنه يشمل بهذا الأوزان كما يشمل به القوافي. إن المزينات اللفظية والوزنية والقفوية توصل معنى يعجز عنه النثر. ويعتبر حازم بهذا الرأي سباقاً إلى الفكرة التي تؤكد أن الشكل نفسه معنى. يقول حازم:

>فالعروض الطويل تجد فيه أبداً بهاء وقوة. وتجد للبسيط بساطة وطلاوة. وتجد للكامل جزالة وحسن اطراد، وللخفيف جزالة ورشاقة، وللمتقارب بساطة وسهولة، وللمديد رقة وليناً مع رشاقة، وللرمل ليناً وسهولة. ولما في المديد والرمل من اللين كانا أليق بالرثاء وما جرى مجراه منهما بغير ذلك من أغراض الشعر<(12)

إن حازماً ينحاز هنا جهة النقاد الذين لا يرون المقومات اللفظية والوزنية مجرد حليات. وهكذا فحينما يقال إن الشعر يوصل معنى لا يوصله النثر يعني أن هذا المعنى الشعري إذا حاولنا ترجمته فإننا نحاول محالاً. إننا نحرم هذا المعنى الذي يعلق بتلابيب الشكل لفظياً كان أم وزنياً أم قفوياً.

5 – مراتب المقومات الشعرية

وعلى الرغم من أن بلاغة حازم تقوم على المقومات اللفظية والمعنوية، فإنه لا يجمع بين كل هذه العناصر في حشد من الأمشاج، بل إنه يصوغ كل المقومات صياغة هرمية. ففي أعلى السلم يقوم المعنى المجازي. يقول حازم :

وأيضاً فإن محاكاة الشيء بغيره أطرف من محاكاته بصفات نفسه. وهي أكثر جدة وطراءة منها. فكانت محاكاته بها أطرف من محاكاته بصفات نفسه< (13). وإذا كان حازم يشدد على أن المحاكيات غير المباشرة أقوى شعرية وأشد إثارة فإنه يعلي بهذا من شأن العبارات المجازية. وبهذا فهو يتابع ذلك التقليد العربي العريق الذي يرى أن الشعرية إنما تتحقق بفضل العبارات المجازية والتشبيهية. وحتى الفلاسفة المسلمون الذين ترجموا وشرحوا شعرية أرسطو وخطابته اللتين لا تخصان التشبيه إلا بمنزلة ثانوية شددوا على مركزية الاستعارة في الإبداع.

ويلي هذا النوع في المرتبة المعنى الحرفي المشكل للمعاني الإنسانية التخييلية. ولحازم حجة جميلة تحاول إثبات تخييلية المحاكاة المباشرة. إنه يقرن بين الأشجار التي نشاهدها بشكل مباشر وتلك الأشجار التي نشاهد صورتها المنعكسة على صفة الماء الصافية. فما دامت الشجرة تتمتع بهذه الفتنة وهي تنعكس حرفياً على صفحة الماء كذلك المحاكاة المباشرة يمكنها أن تتمتع بهذه الجمال الذي لا يكون للوصف المعتاد النثري. وهذا الوصف المعتاد يقابل الشجرة الواقعية المدركة بالحواس. الواقع أن حازماً يرسخ هنا مكانة هامة لذلك الفن الذي لم يجد له البلاغيون التقليديون من أمثال قدامة بن جعفر وابن رشيق وهم يتحدثون عن الوصف المبرر الجمالي للترحيب به في دائرة الشعر باعتباره مقوماً أو باعتباره جنساً. وهذه الالتفاتة هامة جداً إذ أن حازماً يرد ركاماً من الكتابات التي تكتفي بإسناد الجمالية إلى النصوص المجازية والاستعارية دون النصوص الحرفية الدلالة. يقول حازم:

>وأما تخييل الشيء نفسه بالقول المحاكي له فكأن نسبته إلى النفس والسمع نسبة افصاح الزجاجة عما حوته وافشائها سر ما أودعته إلى العين من تماثيل الشمع ذوات الأنوار أو الأدواح الخضر ذوات الأنوار في صفحات الماء ما ليس لها لرؤية صور هذه الأشياء في المياه أقل تكراراً على الإنسان من مشاهدة حقائق تلك الصور. فهي لها أشد استطرافاً.<

قد لا نجد أعمق من هذا الكلام لحازم في الدفاع عن المحاكاة الحرفية التي نظر إليها بوصفها أداة يمكن أن تنتج نصاً شعرياً جميلاً. شأنها في ذلك شأن الرسم الحرفي للأشياء ونحتها اللذين نتخذ منهما أدوات متعة جمالية. وبطبيعة الحال فإن هذا لا يغض من مكانة المحاكاة بواسطة إذ أن حازماً لا يترد في الإعلاء من مراتبها فوق مراتب المحاكاة المباشرة على الرغم من التنويه بها.

6 – دلالة الشعر وعـتمة النـثر

يقول حازم:

>فأما السبب من حسن موقع المحاكاة من النفس من جهة اقترانها بالمحاسن التأليفية فهو أنه لما كانت للنفس في اجتلاء المعاني في العبارات المستحسنة من حسن الموقع الذي يرتاح له ما لا يكون لها عند قيام المعنى بفكرها من غير طريق السمع، ولا عند ما يوحي إليها المعنى بإشارة، ولا عندما تجتليه في عبارة مستقبحة، ولهذا نجد الإنسان قد يقوم المعنى بخاطره على جهة التذكر، وقد يشار له إليه، وقد يلقى إليه بعبارة مستقبحة، فلا يرتاح له في واحد من هذه الأحوال. فإذا تلقاه في عبارة بديعة اهتز له وتحرك لمقتضاه، كما أن العين والنفس تبتهج لاجتلاء ما له شعاع ولون من الأشربة في الآنية التي تشف عنها كالزجاج والبلور ما لم تبتهج لذلك إذا عرض عليها في آنية الحنتم وجب أن تكون الأقاويل الشعرية أشد الأقاويل تحريكاً للنفوس، لأنها أشد إفصاحاً عما به علقة الأغراض الانسانية، إذا كان المقصود بها الدلالة على أعراض الشيء ولواحقه التي للآداب بها علقة.<(14)

ما يهمنا في العبارة الهامة هو أن النثر يوضع لأول مرة في تاريخ النقد الأدبي موضع القول الذي لا يفيد في التوصيل، إنه مادة سميكة وغير قابلة لنفاذ المعنى، إنه شبيه بآنية الحنتم أو الفخار. في حين أن الشعر لا يسمح بالتعبير عن المعاني الإنسانية فحسب، بل إنه شبيه بالبلور والزجاج. وليس ضروريا أن تكون هذه الصور المرئية أو الحسية مطابقة. إن الصور المجازية أو الأليكورية قد تكود أقوى تعبيرية وما دامت أقوى تعبيرية عن غرض إنساني فهي أقوى شعرية. وبطبيعة الحال فإن المحتوى الذي يتم توصيله بالنثر المعتاد حينما نحاول توصيله بالشعر لا نبلغ الغاية. ولذلك نستطيع وصف الشعر هنا بأنه غير موصل. والعكس صحيح حينما نحاول بواسطة النثر توصيل محتوى نوصله في العادة بالشعر سيفشل النثر في ذلك لأن المحتوى الإنساني أي الوجداني يوصل جيداً عبر الشعر.

يبدو لي من الزاوية الأخرى أن النقد المعاصر قد بدأ يتلمس الطريق نحوهذا الطرح. يقول يوري لوتمان:

>إن الخطاب الشعري يمثل بنية بالغة التعقيد. فهو يعتبر، في علاقته باللغة الطبيعية أعقد. وإذا كان مجموع الخبر المحمول بالخطاب الشعري ( نثراً أو منظوماً، في هذه الحالة هذه المسألة لا أهمية لها) وبالخطاب المعتاد متماثلاً فإن الخطاب الفني يفقد كل حق في الوجود وبدون شك سيتعرض للتلاشي. إلا أن الأمور لا تسير في هذا الاتجاه : إن بنية فنية مركبة ومصوغة انطلاقاً من مادة اللغة تسمح بتوصيل مجوعة من الأخبار يتعذر توصيلها بوسائل بنية اللغة الأولية لغة الاستعمال المعتاد أو اليومي]. ويترتب عن هذا أن أن خبراً معطى ( أي محتوى) لا يمكن أن يوجد ولا أن يُنْقَلَ خارج بنية معطاة. وإننا بتحويل قصيدة إلى الخطاب الشائع أو اليومي] ندمر بنيته، وتبعاً لذلك لا نوصل بتاتا إلى ذلك الذي يستمع مجموع الخبر الذي كان يحتويه.<(15)

7 – حازم بين أرسطو والتربة المحلية

تقوم النظرية الشعرية الحازمية على المزج بين المسعى الخطابي والمسعى الشعري في نفس الآن. فهو على الرغم من تمييزه بين الاستراتيجيتين الخطابية والشعرية، لقيام الأولى على الإقناع والثانية على التخييل فإن الغاية واحدة وهي دفع المتلقي إلى سلوك ما. وهذا السلوك الذي نلتمس من المستمع سلوكه نصل إليه عبر الشعر بفضل التخييل ونصل إليه عبر الخطابة بفضل الإقناع. يقول حازم وهو يقدم تحديداً للشعر يمزج بين المنحى الخطابي والمنحى الشعري:

>الشعر كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه اليها، ويكره إليها ما قصد تكريهه، لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمن من حسن تخييل له ومحاكاة مستقلة بنفسها أو متصورة بحسن هيأة تأليف الكلام، أو قوة صدقه أو قوة شهرته ، أو بمجموع ذلك. وكل ذلك يتأكد بما يقترن به من إغراب. فإن الاستغراب والتعجب حركة للنفس إذا اقترنت بحركتها الخيالية قوى انفعالها وتأثرها. <(16)

إن حازماً يتحدث هنا عن المقومات التخييلية، الدلالية الحرفية والمجازية والمقومات اللفظية والوزنية والتغريبية الخ وهذه الأمور تمثل مسعى الشعر بالنسبة للتراث العربي. إلا أن الغاية في النهاية هي تزيين الشيء أن تقبيحه ودفع المتلقي إلى الإقبال عليه أو الهرب منه. وهذا المسعى هو مسعى خطابي. على أن الغايتين معاً الشعرية والخطابية مختلفتان عن المعنى الذي عهدناه لهذين المصطلحين عند أرسطو؛ إذ أن الشعر الأرسطي هو شعر دراماتيكي تراجيدي، غايته هي التطهير بإثارة عاطفتي الرحمة والشفقة. والخطابة هي خطابة تشاورية وقضائية واحتفالية، وفيها يسعى الخطيب إلى إيقاع الإقناع بصدد رأي متعلق بواحد من هذه المقامات الثلاثة.

جاكبسون

أو تشييئ الدلائل

لقد كانت حركة الشكلانيين الروس التي ظهرت في العشرين من هذا القرن في الاتحاد السوفياتي واحدة من أشهر الحركات النقدية التي شددت على اعتبار الأدب يحقق أدبيته اعتماداً على مقومات شكلية لا دلالية. ولهذا فقد ناصبت العداء كل الحركات النقدية التي تتراوح بين الواقعية والتاريخية والرمزية. إذ أنها تعتبر، وبأقدار متفاوتة، أن للمعنى دوراً هاماً في الأدب.

بل أن هذه النزعة كانت مهيمنة على ساحة النقد الأدبي في روسيا: >يمكن أن نلاحظ أن النقد الأدبي الروسي في أيامه الأولى كان واقعاً تحت سيطرة الاعتبارات السياسية والاجتماعية، وقد كان الأثر الأدبي يُقوَّم باعتبار محتواه الاجتماعي والسياسي ولم تكن الملامح الشكلية تراعى إلا في المرتبة الثانية<(17)

هذا الوضع هو الذي جاءت الحركة الشكلانية رد فعل عنيف ضده. وهكذا ذهبت الشكلانية إلى أن الدليل في الكلام العادي أو العلمي يعتبر مجرد لافتة شفافة على المعنى ومجرد علامة عليه، فحين نتمكن من المعنى ينتهي دور الدليل ويضمحل أو يتلاشى وينسى في المقاصد التواصلية. هذا الوضع تختفي معه الكلمات التي تسبعدها المعاني في التواصل. إلا أن الأدب والشعر بوجه خاص يعدل عن هذا الاستعمال للألفاظ، ويسير بها في اتجاه إكساب الدليل استقلاليته إزاء المعنى. الكلمات هنا لا تحيل على المعاني بل تحيل على نفسها مكتسبة وجودا ماديا مدركاً وملموساً. وهذا معنى قول شلوفسكي: >لا تعود الدلائل مجرد ظل وإنما تصبح بالأحرى شيئاً<(18). والواقع أن اللغة لا تتحقق بكامل ثقلها إلا بفضل هذه الممارسة الشعرية. وهذا يعني من الزاوية الأخرى أن الدليل لا يتنكر فقط للمعنى بل يتنكر لكل العناصر المساهمة في العملية التواصلية بما في ذلك الباث والمتلقي والقواعد والقناة، الخ. بل إن هذه العناصر كلها يتم خرقها في الشعر.

وقد اعتبرت حركة الشكلانيين هذه الخاصية الشكلية الثاخنة، أو الطبقة السميكة المتألفة من الدوال والمدلولات الزائدة الماسخة للمعنى والحاجبة، موضوع علم الشعر. ولطف جاكبسون من غلواء هذه الدعوى ذاهباً إلى أن الشعرية الشكلانية لا تتنكر للمعنى وباقي العناصر ولكنها تزعم فقط أن هذه العناصر لا شأن لها بأدبية الأدب. إن عالم الأدب ينبغي أن يعتني فقط بهذا الجانب الجمالي من الكتابة. وهكذا فإن خطأ مؤرخ الأدب القاتل هو أنه تجاهل التخصص وتجاهل الملامح المميزة للأدب والشعر. وقد تحدث جاكبسون عن مؤرخ الأدب هذا بكلام ساخر حينما لاحظ أنه يخلط الأدوار فلا يحترم الحدود. ولهذا نراه يداهم المجالات التي لا يحق له مداهمتها. يقول جاكبسون:

>إن الشعر هو الكلام المزاول لوظيفته الجمالية. وبهذا فإن موضوع علم الأدب ليس هو الأدب وإنما هو الأدبية أي ما يجعل من أثر معطى أثراً أدبياً. ومع ذلك فإن مؤرخي الأدب كما نعهدهم اليوم، يشبهون ذلك الشرطي الذي يسعى إلى اعتقال شخص ما، فيعتقل بالصدفة كل من يلقاه في المنزل كما يعتقل كل من يصادفهم في الشارع. وكذلك فإن مؤرخي الأدب يعمدون إلى استخدام كل شيء، كالحياة الشخصية والسيكولوجية والسياسية والفلسفة. وكانوا يستخدمون بدلاً من العلم ركاما من الأبحاث الحرفية، كما لو كانوا ينسون أن هذه المواضيع تعود إلى علوم تناسبها: وأن هذه العلوم الأخيرة يمكنها تمام الإمكان أن تستخدم هذه المآثر الأدبية بوصفها وثائق ناقصة وثائق من الدرجة الثانية. فإذا كانت الدراسات الأدبية تريد أن تصبح علماً، فينبغي أن تعترف بالأداة الفنية بوصفها “شخصيتها الوحيدة” < (19)

ومع هذا فإن هذه الخاصية ليست محصورة في الأدب بل إن هناك أجناساً من الخطاب غير الأدبي يمكنها أن تكون مجال تمظهر الأدبية. إن الشعرية من حقها أن تتفرغ لدراسة هذه الملامح في أجناس خطابية غير أدبية. وإذا فعلت ذلك مثلاً بالنسبة للخطاب الإشهاري فإن ما تكتبه بهذا الشأن ليس نظرية في الإشهار بل نظرية أدبية. تماماً كما أن الداعية الإيديولوجي الذي يكتب عن الأدب باعتبار محتوياته الإيديولوجية، لا تكون كتابته هذه أدبية بل إديولوجية.

إن الأدبية هذه تكون مهيمنة في الأدب، وتكون ثانوية في الخطابة مثلاً. على أنها تكون صفراً في خطاب الرياضيات. وحيث تهيمن الوظيفة الأدبية كما قد يحدث في خطاب كنا نعتبره غير أدبي يتحول هذا الخطاب لكي يكتسب صفة الأدبية. هكذا إذن قد يخطئ بعض الخطباء الذين يبالغون في العناية بالعبارة فيكتبون أدباً حيث يتوهمون أنهم يكتبون خطابة. والعكس صحيح بالنسبة لأولئك الشعراء الذين يبالغون في الاهتمام بالمعنى والمسعى التوصيلي فيكتبون نثراً عادياً حيث يتوهمون أنهم يكتبون أدبا أو شعرا.

الشعر ضمن هذا التصور لا يستسلم لدواعي التمثيل أو محاكاة الواقع. حينما كان الشعر الكلاسيكي يتخذ محاكاة الواقع غاية له ــ (الشعر هو كالرسم ) كما يقول هوراس في عبارته المأثورة ــ فإنه كان بذلك يضل الطريق لكي يصبح نثراً. ويبدو أن الشكلانيين ومعهم جاكبسون لم يكونوا مجددين بالكامل. ففي القرن التاسع عشر ظهرت بجلاء المطالبة باستقلال اللغة الشعرية. إن الشاعر الألماني الرومانسي نوباليس، يشبه الرسم والشعر بالموسيقى، التي تنبسط، وهي ترفض سراب التمثيل، بالتأليف بين عناصرها الخاصة. وأكد بودلير >ليس للشعر غاية غير ذاته<.(20)

وقد اختصر جاكوبسون هذا الملمح المميز للأدب في ما سماه الوظيفة الشعرية التي تهيمن في الشعر على أنها قد توجد في أجناس أخرى من القول. ووضعها خارج الشعر أنها لا تكون مهيمنة. وقد عرفها بعبارته الشهيرة: > تسقط الوظيفة الشعرية مبدأ التماثل لمحور الاختيار على محور التأليف.<(21) وهو يقصد إلى استعمال وحدات متشابهة لفظياً أو صوتياً أو صرفياً أو تركيبياً في مواقع متماثلة ضمن المتوالية النصية. ومن الأمثلة التي يقدمها I LIKE IKE إن هناك استعمال حرف i في مواقع ثلاثة متقاربة وهذا التكرار يكسب الصوت وقعاً ما كان ليتمتع به دون هذا التكرار. هذه التكرارية تجعل اللفظة ملحوظة ومدركة وملموسة، وهذا معنى تحول الكلمات إلى أشياء. على أن هذا التكرار في مثال جاكبسون يقوى بتكرار آخر هو ذلك المتحقق في IKE التي تختم العبارة إلا أنها قبل النهاية وردت تلك اللفظة ضمن الكلمة LIKE. ومنه أيضا هذا البيت لأبي الطيب المتنبي:

قليل عائدي، سقم فؤادي، كثير حاسدي، صعب مرامي.

نلاحظ في هذا البيت أربع جمل متوالية وهي متألفة من نفس العدد من الكلمات وهي تقوم على نفس الصيغ الصرفية ونفس البناء النحوي التركيبي ونفس الهيكل العروضي والقفوي الداخلي. وهذا التكرار خاصية أساسية في الكلام الشعري في كل التراث التقليدي عند كل الأمم. ويرتبط هذا التكرار بالشفوية حيث كان التلقي يعتمد بالأساس على التلفظ وعلى السماع. ويبدو أن هذه الخاصية ستضعف مع هيمنة الطباعة وتحول التلقي من التلفظ والسماع إلى الكتابة والمشاهدة. بل إن التراث الشفوي نفسه حينما بدأ ينقل عبر الكتابة فقد الكثير من قيمه الصوتية.

وقد بلغ هذا الاصطياد للتكرارات في الشعر إلى حد اختزال الشعر إلى مجرد عداد يوزع المقولات النحوية هذا التوزيع المتعادل أو المتوازي. ووجد جاكبسون المبرر لعنونة أكثر من مقال واحد مما كتبه >شعر النحو ونحو الشعر<. وبلغ الافراط حدوداً مثيرة حيث قارن بين الهندسة واللغة، والتمس الحجة على هذا لدى ستالين (!؟) (22). وقد أثار جاكبسون استفزاز الكثير من النقاد بسبب شدة ولوعه باصطياد هذه البنيات المتوازنية. فهذا جورج مونان وهو ألد معارضي هذا المنهج، يصفه بأنه >شكل من الكلمات المتقاطعة العليا<.(23) إلا أن أهم انتقاد لرومان جاكبسون هو ذلك الذي وجهه إليه جيلبير ديوران، وهو يتناول ساخراً التحليل الذي قدمه لبيت بودلير:

Les chats puissants et doux, orgueil de la maison

وقد أعاد بناء هذا البيت بالاحتفاظ بكل الملامح الشكلية التي سجلها جاكبسون، وعمد إلى شحن البيت الجديد الذي يقترحه بمعنى يتعارض كلية مع معنى بيت بودلير. وهذا البيت هو:

Les rats bruissants et roux, orgueil de la prison

والواضح أن المعنى الجديد ليس مختلفا فحسب بل إنه معنى ساخر.

والعامل الذي يقف وراء هذه المفارقة هو تجاهل جاكبسون للمعنى في التقويم الشعري. إن موقفه يتأرجح في التقويم الشعري بين قطبين فهو يرفض تارة أن يكون للنص الشعري معنى. وهو يزعم طوراً آخر أن هذا المعنى لا يهم عالم الشعرية ولا دور له في تمييزية الأدب والشعر.

وبطبيعة الحال فإن موقف جاكبسون كان ردة فعل ضد النقد الدغمائي الذي يعتبر النص الشعري حاملا ً للرسالة شأنه شأن النص النثري. وكان رد فعل غير معتدل ضد أولئك الذين حاولوا استخدام الأدب واستعباده. وكأي رد فعل فقد عاق ذلك تصور الأدب تصوراً مقبولاً.

علينا من جهة أخرى ألا نبالغ في تقدير الإرث الشكلاني الذي يتزعمه رومان جاكبسون، إذ الكثير من الأفكار التي نادى بها واعتبرها صياغات شخصية أو جديدة لم تكن كذلك. إن بوتيبنيا الذي توجهت إليه سهام الشكلانيين لمجرد >أنه يعتبر الأدب تفكيراً بالصور<، في حين طالب الشكلانيون باستقلاليته، نجده يصرح في أكثر من مكان بأفكار يمكن أن يحسده عليها الشكلانيون. >في الأثر الشعري يتحقق النموذج المثالي للغة، أى الانعتاق من تسلط الفكرة، إن الشعر لهو آلية للدفاع القوي الذي تستخدمه الكلمة بغاية تحقيق استقلاليته إزاء المواقف المعادية، إن الأثر الأدبي هو لغة بامتياز، لغة في مستواها الخلاق الرفيع. وعلى العكس من ذلك فإن كل تحقق للفعالية الخطابية، من قبيل خلق ألفاظ جديدة يمكن اعتباره فعلاً شعرياً، إن كل كلمة منظوراً إليها مستقلة يمكن أن تعتبر أثراً أدبياً. …] إن الكلمة هي فن أو هي بتعبير أدق شعر<(24)

هذه ثلاث لحظات في تاريخ الشعرية. تشدد أولاهما على النظر إلى النص الادبي، باعتباره تراجيديا، على الوظيفة الانفعالية التطهيرية العلاجية الذي يبعثها نص التراجيديا. وكل المقومات المستخدمة هنا إنما توضع في ميزان القدرة على إثارة هذا الانفعال. وبطبيعة الحال فإن أجود النصوص الشعرية التي توقف عندها أرسطو هي تلك التي تستجيب لهذا المثال. إنها تراجيديات سوفوكل. وكانت هذه النصوص التراجيديا تستجيب لحاجة محلية في الحاضرة الأثينية. هذا النموذج الجمالي الذي رأى النور في الدائرة الحضارية اليونانية لا يمكن ولا ينبغي تعميمه على دوائر حضارية أخرى.

وبالنسبة إلى نص حازم منهاج البلغاء وسراج الأدباء فقد كان النص الأدبي مزيجاً من الشعر والخطابة. بل لقد كان تصوره للأدب تصوراً خطابياً إذ أن النص هو في النهاية يصدر أمراً لفعل شيء أو الكف عن فعله. وحينما ندفع الشخص إلى الإقدام على هذا الفعل بالحجج الإقناعية فإن ذلك يكون خطابة وحينما ندفعه إلى فعل شيء بحفزه بواسطة الوسائل التخييلية فإن ذلك يكون عملا شعرياً. من هنا فإن الفرق بين الشعر والخطابة لا يستند إلى التباين في الغايات بل يستند إلى التباين في الوسائل. وهكذا فإن حازم خرق التمييزات الأرسطية خرقا عنيفا . وبطبيعة الحال فإن هذه لم تكن من جهته خيانة أو جهلاً بل إنه كان يستجيب لحاجة ثقافية.

ويتنصل الشعر في النظرية الشكلانية الجاكبسونية من كل الأغراض الخطابية أو الشعرية. إن الشعر يتنصل من هذه المهام ولا يتخذ له غاية أخرى غير قصد الذات وتحقيق القناة. إن الوظيفة الأساسية للشعر هي الإحالة على الذات اللفظية التي توفر لها إمكانية الظهور بفضل الشعر.

———————————–

هوامش

1- Aristote , La poétique , Texte , Traduction , Notes Par Roselyne Dupont -Roc et Jean Lallot, éd Seuil , 1980 p 57

يمكن في هذا السياق أن نقارن هذه الترجمة التي يقترحها لالو والترجمة التي يقترحها شكري عياد > حينما نترجم ” القصة إذن هي نواة التراجيديا وتليها الأخلاق، فلو أن كاتبا سرد خطبا في الأخلاق ذات صنعة جيدة في العبارة والفكر لما كان لذلك فعل التراجيديا، ولكان أدنى منه كثيرا إلى ذلك الفعل : التراجيديا التي يقل حظها من هذين العنصرين ولكنها تحتوي على قصة ونظم للأعمال < ينظر في الشعر ، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر ، القاهرة 1967 ص ص 52 – 53

2 – 1- Aristote , La poétique , Texte , Traduction , Notes Par Roselyne Dupont -Roc et Jean Lallot, éd Seuil , 1980 p 75

3- 1- Aristote , La poétique , Texte , Traduction , Notes Par Roselyne Dupont -Roc et Jean Lallot, éd Seuil , 1980 p 57

4 – Heinrich Lausberg, Manuel de retorica literaria, T 2 , pp . 465 – 467

5 – H . L . Mrou , Histoire de l’éducation dans l’antiquité , Paris 1950

6 – حازم القرطاجني : منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق امحمد الحبي بن الخوجة، دار الغرب الرسملامي، بيروت 1981- ص ص 69 – 70

7 – نفسه ص ص 22 – 23

8 – نفسه ص 20

9 – نفسه ص 86

10- نفسه ص 89

11 – قد لا ينبغي أن نفهم من المحاكاة المطابقة التسجيل الحرفي والصادق لواقع ما. فمحاكاة فعل أو شيء مختلفين يمكن أن يكونا موضوع محاكاة مطابقة، وذلك يعود بكامل البساطة إلى أننا في هذه المحاكاة نتوسل بالكلمات ذات المعاني الأحادية غير المجازية. إن التعبير يكون مباشرا عن هذه الواقعة المختلفة. وهكذا فالكذب يمكن من هذا التصور أن يكون مطابقا.

12 -نفسه ص 269

13 – نفسه ص ص 128 – 129

14 – نفسه ص 118

15 – Iouri Lotman , La structure du texte artistique ; éd Gallimard , Paris , 1970 , p 38

16 – نفسه ص 71

17 – V . Erlich , El formalismo ruso , éd Lumen Seix Barral , Barcelona , 1974 , P. 105

18 – عن رومان جاكوبسون، قضايا الشعرية، ترجمة محمد الولي

ومبارك حنون، منشورات طوبقال ، البيضاء، 1988، ص 7

19- R Jakobson , Huit questions de poétique , éd , Seuil , 1977 , pp 16 – 17

20- in Jean Louis Robert , La poésie , éd , A . Colin , 1988 , p . 86

21 -رومان جاكوبسون ، قضايا الشعرية ، ص 33

22 – رومان جاكوبسون ، قضايا الشعرية ص 72

23 – in Daniel Delas , R . Jakobson , Bertrand ; Lacoste , 1993 , p 70

24 – V . Erlich , El formalismo ruso , éd Lumen Seix Barral , Barcelona , pp 32 – 33