نظرية عمائية أم استراتيجية معرفية؟

Bengrad
2021-06-04T11:24:02+00:00
العدد الثالث عشر
17 أغسطس 2020502 مشاهدة

سعيد علوش

هبني أثر فراشة أهبك أثر فائض قيمة

حين ظهرت حلقة (مدرسة أبولو) في الأدب العربي. لم يخطر على بال مؤرخي الأدب أن الاختيار يرتهن إلى الكياسة والتوازن والمكون العقلاني لابولو، كما لم يتساءل النقاد عن نقيض هذا الأخير في التوجه الديونيزوسي إلى الغضب والعنف والمبالغة والعماء لسلبياتها المفترضة.

فهل معنى هذا أن الأدب العربي حسم اختياره، وقرر ما ستكون عليه بصيرته؟ موليا ظهره لكل جواذب العماء واحدداباته وتشظياته، وأنه يظهر كجزء من حياتنا اليومية، لأنه يسكن أكثر الأنساق تنظيما وأكثرها قوة في الأجهزة الحية والعضوية.

فالعماء ليس ظاهرة مخبرية، تقرأ عبر الجواذب الغربية، ولا مجرد مظهر موضوي، يفسر نجاحه الحالي، عبر اشتغاله خارج فضاء تكونه، عبر تعالقات مجازية، وتطبيقات المشابهة والمقايسة والمقابسة.

ليست ديونيزوسية العماء إذن، مجرد ركوب موجة غير متوقعة، لنقلة تحظى باهتمام المعنى في الآداب العامة، التي وجدت نفسها تنخرط في مقاربات متفاوتة حول ظواهر اللا انتظام وسقط المتاع البلاغي والتشظيات المقطعية، في الأنواع الكبرى والصغرى والنظريات الأدبية (1)

من ثم، لم يعد العماء الديونيزوسي مجرد هوس بالمخالفة التي لا تعرف، بل هو افتراض أساسي، يعتمد على ملاحظة اللا انتظام في الظواهر الأدبية، عبر شروط لغوية وتخييلية معينة لتطور هذه الظواهر ، الذي يعتبر تمظهرا لنظام تحديدي ومعقد، يسعى إلى استبدال التفسيرات الاختزالية والمثالية والجاهزة بنظرية عماء، تستدعي ميكانيزمات فضائية لتوضيح الطبيعة العقلانية للمنفلت والهامشي والنفاياتي.

وبذلــك يكاد السلوك العمائي في نظام ظاهرة أدبية معينة يكون مظهرا استثنائيـــا، يستعيـــد الشروط الأوليــــة للنظام في شكل سلوك غير متوقع، يطبع الاستثناء الذي طالما أكد القاعدة، قفزا على المساءلة الدينامية…. لأننا كما يقول : (ميشال سير) ( نحن منبهرون بالوحدة، فوحدها الوحدة تظهر لنا عقلانية…. فالتجزئة منفرة… والتعدد كما يقول ليبنتز ليس سوى نصف كائن ) (2)

فإذا كانت هذه الملاحظة تنبثق في غرب التراكمات والتقاليد الفلسفية الأنفاس، فانها تجري على كل الآداب العامة، وليست ظاهرة الآداب الخاصة وحدها، مما سيعفينا من أجل الدخول في جداليات بصيرة الفضاء وعماء الأزمة والدخول في متاهات المزايدات وجلد الذوات أو تنزيه الأنوات… فلا وحدة إلا في التعدد، هذا الكائن الكامل، الذي ينهل من المعرفة الفاوستية والموسوعية الفقهية، واستعادة الأفكــــار القديمة لرد الاعتبار إلى فائض القيم الحديثة، وهو ما لم يفت جيمس كليك (James Gleich) الصحافي العلمي، الذي خص نظرية العماء بكتاب شبه غنائي مطبوع بحماس ميتافيزيقي علمي ينزع نحو الفهم : >فالعماء كوحدة خاصة للعمل المعاصر) وليس فقط (كـ) تاريخ للنظريات والاكتشافات الجديدة، ولكن (كـ) وحدة فهم متأخر للأفكار القديمة< (3)

وما أثاره ميشيل سير وجيمس كليك، لم يكن بمنأى عن ما قدمه المنظر الأساسي للدلالة الثقافية، جان بودريارد (J/ Boudriard) حول الدلالة التصورية (1983/1981) أو دافيد بوروش (David Pprush) عن التنظيم الذاتي والأدب المعاصر (1991/1985) وأخيرا محاولة تقديم نظرية عن مجمع نصوص(Hypertextualité) مع جاي بولتر (Jay Bolter) (1991) حيث يتوقف الكاتب عن أن يكون مجرد هوية مستلبة، ليتحول إلى وظيفة موزعة في النسق، ويتوزع النص بدوره بشكل متشابه… يجعل من اعادة وصف تواتر النصوص عند كاترين هايليس (Katherive Hayles) نسقا تنظيميا ذاتيا (1991).

عماء فوق كل الشبهات

نقصد بنظرية العماء المرادف الغربي (Théorie du Chaos) خلافا لسامي أدهم الذي، احتفظ لها بالاسم الأصلي الإحالي (الكاوس) أو (الفوضى) و (الشعت) في مقاربات الصحافة الأدبية، لكنها تسميات عديدة لمسمي واحد يحيل على (Chaos) كما حدده الأب الروحي بنوا مندلبروت (B.Mandelbrot) (1959) وطوعه جيمس كليك (J.Gleick) في العلوم المحضة، وكما سيكفيه لاحقا العدد الخاص من مجلة (نظرية /أدب/تعليم) حول (نظرية العماء والأدب) (1994) في العلوم الإنسانية كعمل جماعي،يحتفي بالنظرية منذ أفكارها الجنينية في عمل بوان كاري (Henri Poincaré) للصدفة (1907) مرورا بادوارد لورانز (E.Lorenz) (1963) في حوار حميمي يتوخى مقاربة العماء من المنظور الابستمو-نقدي…

ويبدو أن الحركة الأولى التي استلهمت فيها الآداب نتائج القرن التاسع عشر تمخضت عن وليد معوق، غذته الاتجاهات الوضعية، بسيطرتها على جل المقاربات النقدية العربية وعاقتها عن طرح الأسئلة الجديدة، فكان لابد من حركة ثانية تستلهم فيها الآداب آخر مستجدات القرن العشرين، محاولة منها رأب صدع التصدعات المنهجية والنقدية والإبداعية، التي ستتمرد على أبولو، لتتبنى ديونيزوسية العماء سعيا لاستعادة ماء وجهها وماء الحياة وماء الأدب والعلم، في اشتغالهما كخطاطين متعارضين، مع أنهما يتحدثان بنفس الصوت ويدوران حول فضاء واحد تكونه دينامية العماء وبصيرة المساءلة… فلن تتكرر التبعية السابقة في الحركة الأولى لاجترار نتائج العلوم في الاتجاه الوضعي التاريخي والنقدي، وهذا ما جعل ألان بوتو (Alain Boutot) يؤكد هذا التوجه، مقررا أنه : > ليست نظرية العماء مجرد فرع من الفيزياء، بل هي تضع موضع السؤال العديد من الافتراضات التي كانت وراء التمثيلات العلمية للعالم (…) فهي تفرض علينا.. إعادة التفكير فيما يمكن تسميته جدلية البسيط و المعقد< (4).

وهي جدلية تلتفت للنفايات والمقطعية والتشظي وكل مستبعد في مقاربات العلم والأدب. فالاختلالات التي ظلت مظاهر سلبية تطفو على السطح كأفكار مؤجلة كانت ظواهر تنتظر لحظة الاعلان عن بروزها الثلاثي الاضلع في :

-الفلسفي والابستمولوجي (مفهوم اللاشيء)

-السوسيو-ثقافي والأنثروبولوجي (مفهوم النفايات )

– التكنولوجي (علوم وتقنيات التشظي)

من ثم يقرر جيمس كليك، عودة الوعي باللانظام من خلال مقاربات العماء. الذي اعتبر حركة سلبية في التاريخ، إذ : >حينما يبدأ العماء يتوقف العلم الكلاسيكي، فمنذ وجود فيزيائيين يدرسون قوانين الطبيعة كان العالم جاهلا تماما بفوضى المناخ والبحر الهائج، وتغيرات التساكن الحيواني واهتزازات القلب والدماغ، فالمظهر المختل للطبيعة، غير المستمرة واللامنتظمة، كل هذا ظل لغزا أو أسوأ من ذلك، فقد أدرك كمسخ.

فمنذ السبعينات بدأ بعض العلماء… في اختيار اللانظام من رياضيين وفيزيائيين وبيولوجيين بحثا عن التعالقات بين مختلف أنماط السلوك غيرالعادي، ليكتشف الفيزيائيون وجود نظام ملفت في حضن العماء، الذي ينمو في القلب الانساني وتعود إليه بالدرجة الأولى أسباب الموت المفاجئ وغير المبرر…) (5)

من ثم، يقدم جيمس نقدا مزاوجا لبنية المؤسسة العلمية، التي أعادت للعماء ألق ايجابيته، ليشع كحركة تستوعب سلبيات البناء السريع، وتوجد مناهج أصيلة يساهم فيها استعمال الكمبيوتر، لايجاد صور تحليلية كانت بداية الالمام بالحساسية القوية للبنية المرتبطة بالتعقيدات، عبر مفاتيح التشظي والتناتل والتقلبات والتحقيبات والتحولات (Fractales; bifurcation; intermittences; périodicités, diffeomorphismes) ولم يعد العماء مجرد ظاهرة عرضية، بل جدلية طبيعية تخترق كل الحجب المستورة في مقاربة جيمس كليك، حيث :

>كان العماء بالنسبة لبعض الفيزيائيين علم طرق بدل علم حالات، وعلم مستقبل بدل ماهو كائن… والآن وقد أخذ العلم إلى العماء، فقد أخذ هذا الأخير يظهر في كل شيء.. : نفثة السيجارة -رفرفة العلم ينظر- جريان ماء حنفية -المناخ-الطيران-ازدحام الطرقات -اشتعالات البترول… فالعماء يلغي الحدود بين الدروس العلمية.. وقد كانت العلوم تتجه نحو أزمتها، بسبب ضيق الاختصاصات… لكن ظهور العماء قلب الحركة بشكل قوي، لأنه يطرح المشاكل المتحدية للمناهج العلمية الكلاسيكية. فكان أوائل منظري العماء -بابداعهم لهذا الدرس-يتحلون بموهبة اكتشاف الأشكال، وخاصة منها تلك التي تتمظهر على التوالي بدرجات مختلفة، إذ كان يشدهم التعقيد والصدفة. في الاهتمام بالكلي< (6)

من ثم ، قد يذهب غلاة العلم الجديد إلى حد ادعاء أن علم قرننا- لن يذكرنا بأكثر من ثلاثة دروس، هي النسبية والميكانيكا الكمية والعماء، لتستبعد الأولى الوهم النيوتوني لفضاء وزمن مطلقين. أما الثاني فيلغي الحلم النبوتوني لطريقة قياس المراتب. وأخيرا يزيح العماء طوباوية الدقة العقلانية، ليدخل بناء عوالم التوقعات منذ الستينات من خلال ما يطلق عليه جيمس كليك .

> أثر الفراشة) برفرفة جناحيها اليوم في بكين، يمكنها أن تولد في الهواء اهتزازات تستطيع التحول إلى عواصف في الشهر المقبل بنيويورك.. وهو مجاز عن توقع اللا انتظام في الحالة المحضة.. فحين انخرط مكتشفو العماء في جنيالوجيا درسهم الجديد، توصلوا إلى وجود عديد من الأصول الثقافية له< (7)

وهذه الأصول الثقافية هي التي تتحول في تجربة بينو ماندلبروت، إلى بحث في التشظيات التي تفرز ثقوبها وبنياتها عبر الركام المتعدد -الاصطناع، والذي تولده قوى طبيعية مختلفة ومجهولة، تندرج في نوع من الصدفة المحددة والموحدة في عديد من الحالات المتفرقة- ويمثل غلاف كتابنا لوحة فنية لماندلبروت تجسيدا لهذا التشظي حيث : (تعد المتشظيات أشياء- سواء كانت رياضية تعود إلي الطبيعة أو إلى الإنسان نطلق عليها : شواذ، خشنات، مساميات، مقطعيات، (وهي على التوالي) Irréguliers, rugueux, Proreux, Fragmenties

.. وتكون دراسة هذه الأشياء هندسة التشظي، بحيث نجد لها تماسات مع هذه النشاطات الجانبية، ذلك أن بإمكاننا القول إنها هندسة صدفة وحشية وهندسة تحدد عمائي، وفي العمق لا يتعلق الأمر حقا بنظرية ولا ربما بدرس، بل بمنهجية، ذلك أن طموحها الأولي كان طموح أي علم في : البحث عن عناصر نظام يمكنها من إضاءة عماء الخطابات، التي يتلقاها الانسان عن طريق حواسه، وقد نجح منهجي حين وضع في تماس أسئلة قديمة أو جديدة دون أجوبة. وهو ما سأصفه بعد ذلك بالأجوبة القديمة و الجديدة دون أسئلة… (8)

من ثم يجعل ماندلبروت من تحديد التشظيات فكرة تمتلك بموجبها بعض مظاهر العالم نفس البنية، لتتغير فيها التفاصيل فقط، ويمكن بعد ذلك بواسطة الرؤية المكبرة بلوغ ما يحتويه كل جزء من تشظياته، التي تعتبر مفتاح التكوين الكلي، من هنا يعيد ماندليروت الاعتبار إلى ما كانت تستثنيه تقاليد العلم الكلاسيكي من مقارباتها، وتعتبره مجرد استثناء في قاعدتها بقدر ما تستثني الصدفة المتوحشة في الاقتصاد… وبذلك أوجدت نظرية العماءلنفسها دينامية تكون مع جيمس كليك (1991) في كل ابداعات السلوك العمائي المتوالية، وخاصة تلك التي وفرها العمل الجماعي من مجلة (نظرية/ أدب/تعليم) عن (نظرية العماء والأدب) (1994) يجمعهم بين مقاربات متعددة الاختصاصات في اللغتين الفرنسية والانجليزية…

فهذا هوك كينير (Hegh kenner) من جامعة جورجيا، أحد كبار المختصين بأعمال ايزرابوند يلاحظ أن حدوسات شاعره خلال نصف قرن، كانت تتماشى والهندسة الانشطارية لبنوا ماندلبروت في التسعينات على اعتبار أن الهندسة الانشطارية جد مرتبطة بنظرية العماء…

ومن جامعة تولوز لوميراي، يستدعي جيرار كورديس (Gerard cordess) نفس الهندسة الانشطارية لتجديد قراءته للمتخيل السردي الروائي، عند فورستر (E.M Forster) ومن جامعة باريز العاشرة يقدم أليكسيس تاديي Alexix tadier رواية سلمان رشدي (أطفال منتصف الليل) (1981) كشاهد على مناخ يستأنس بالعمائية حتى وإن كان كاتبها لا يستعمل المفاهيم المستخلصة من نظرية العماء مباشرة …

ويعتمد بول هاريس (Paul Harris) من جامعة كاليولاماريمونث بكاليفورنيا، على وجه من وجوه نظرية العماء، لتفسير الاستعارات اللغزية عند فولكنر. لتتخذ مقاربة سيدني ليفي (Sydney levy) من جامعة كايفورنيا سانتاباربارا. من قراءة فرانسيس بونج (Francis Ponge) دراسة لسردية الروائي في ضوء تجارب التفكير العلمي. أما ماريا أسد، من جامعة بافالو فرغم أنها تقرأ فيكتور هيجو في ضوء فلسفة ميشيل سير، لتمس مجالا مجاورا رغم اختلافه عن نظرية العماء، فهي تجد من السابق لأوانه إعطاء جواب حاسم واعتبار الثقافة ظاهرة عمائية. ومع ذلك لا تنكر اشارة هذه الأخيرة إلى الحضور الدائم للعماء المنفلت من نظام الثنائية في العمل الروائي لهيجو. ويبحث أبريو Abrioux من جامعة السوربون الثامنة بدوره، عن استغلال الطبيعة الهندسية لنظرية العماء، لتقعيد افتراضاته حول الدينامية الثقافية اعتمادا على كاتبي تجربة جمالية شعرية وتشكيلي، وهما الكندي برنارد لاسوس (Bernard lassus) والايكوسي يان هاملتون فاينلي(Janhamilton Finaly) وستتسع المقاربة إلى البحث عن جمالية انشطارية مع جان كلود شيرولي(Jean Claud chirollet) الذي يبحث عن تطبيقاته في أعمال التشكيليين المعاصرين…

عمى متخيل وبصيرة ناقدة .

ويوضح كينيث كنوسبيل (Kenneth knoespel) من معهدتكنولوجيا جورجيا، أهمية الاستدعاء المزدوج للتفكيكية، والعماء.. لمساءلة اشتغال منطق العماء.

وعلى خلاف ذلك تقترح كاترين هايليس، من جامعة كاليفورنيا، التموضع في حضن ثقافة أصبحت عمائية، تذكرنا بالتعالق الضيق لنظرية العماء بالتكنولوجيا الحديثة، قصد ابراز التقاطع بين السرديات والخطاب التكنولوجي. وبذلك تطلق هايليس العمائية على هذا الموقف الجديد من العماء، الذي تجد فيه ظاهرة ثقافية تتجاوز بكثير المجال العلمي المحض. وربما كان هذا النوع من المواقف هو ما دفع إلى النقد الموضوعاتي، لتيمة العمى في الابداع الروائي والمسرحي والشعري.

>لقد اعتقد أبطال “كانيتي” في أصوات مراكش بأن >العمى سلاح ضد الزمان والمكان، هذان العنصران اللذان يكونان وجودنا المحفوف بالمعميات القاتلة، فالعمى يسهل تقارب الأشياء من بعضها ومن ثم إيجاد العلاقات بينها، هذه العلاقات التي لا تتحقق بدونه.. إن عماء المبصر هذا يشبه العمى الذي يصيب العيون المغرورقة بالدموع أو العيون الملتهبة أو العيون التي يغلقها الناس من أجل الحلم أو الحب أو الموت، إنه ذلك العمى الذي ينفذ إلى أعماق النور. إن هذا العمى، كما يدعي، يعطي معنى حقيقيا للحياة أعمق من ذلك المعنى الذي تلتقطه العيون السليمة والمعافاة (إذا) يعتقد الكثير أن هذا الموقف من الأشياء لا ينتج سوى حالة من الاختلاط والتشويش الكامل الذي هو سمة القرن العشرين < (9)

ورغم أن هذا التحليل الحداثي، لا يرقى إلى ما بعد حداثته أو إلى نظرية عماء، لكنه يعتمد على رؤية فلسفية تجعل من التعالقات التيمية المبدأ الأساسي، لبلوغ شبكة الروابط الكونية عبر قراءة مكبرة ليست هي هدف العماء… ولكنها نظرة ثقافية تتجاوز بكثير القراءات الأفقية والتراتبية فوعي هذه الكتابة بالاختلاط والتشويش دلالة على حس جديد أو ما قبل العماء.

وفي مسرحية (العميان) (1890) لموريس ميترلنك، يندرج العمل في نفس التوجه التيمي مستلهما التشكيل الفني للتعبير عن دراميته، والمسرحية كما تعلم مأخوذة عن لوحة للفنان البلجيكي بيتر بروجيل الأب (Pieter Bruegel) التي رسمها في القرن السادس عشر، وهي تصور ستة عميان يسيرون متعثرين، وقد وضع كل منهم يده على كتف صاحبه.. الكل يسير متجها إلى الهاوية التي فغرت فاها… الكل يسير في موكب يقوده أعمى، الأول قد وقع في الهاوية فعلا والثاني يستشعرها وإن كان لا يراها، ومن ورائهم القرية ساكنة هادئة ببيوتها البسيطة الدافئة، تترك العميان يسقطون وكأنها لا تشعر بالمأساة.

وعمى الشخصيات هنا يرمز إلى عجز الإنسان عن تبين مصيره، وإدراك ما يحيط به في هذا العالم الغامض. صحيح أن هناك إشارات خفية عارضة ربما تومض في الظلام، ولكن الإنسان في مسرح ميترلنك بطل أعمى لا يدرك كنه ما يحيط به) (10).

ورغم الطابع الميتافيزيقي لتيمة العمى، إلا أن الاطار الثقافي يسمح بالاستئناس لا بالتبني، حيث: >أراد ميترلنك أن يخلق دراما رمزية، فعبر عن الغموض الذي يحيط بالحياة الإنسانية، وما يواجهه الإنسان من قدر أعمى، بينما يسير في جو ضبابي معتم لا تنيره إلا بعض الرموز التي قد تلمع فجأة كالأنجم التي سرعان ما تهوي. وهو يعبر عن الخوف الذي يعتري الإنسان في مسيرته هذه، ويقدم شخصيات هشة غير محددة الملامح في أغلب الأحيان تكاد تشبه الخيالات تروح وتجيئ بين عالمين: عالم مرئي وآخر غير مرئي، وهي تائهة في الأول حيث تسير فيه بلا هدى ولا معين، وجاهلة بالثاني، لا تعرف عنه شيئا فتبقى محاصرة بين العالمين في حين تحاول فهم الحوار الذي يدور بينهما (11).

ندرك مخاطرة الاحالة على الأعمال الإبداعية ذات التيمة الواحدة والمشتركة، فقد لا تكون ذات قدر من المصداقية، إذ لو كان الأمر كذلك لدخلت كل رسائل العميان والعرجان والبرصان، وكل ذوي العاهات العابرة والمستديمة في نظرية التشظي. ففي قصيدة بابلونيرودا (الأرواح التي تستعيد نفسها بنفسها أرواح قوية) يواجهنا مقطع (يد أعمى) بمقطعية توحي بحساسية شكلية وتقنية، تقربنا من مجال التشظي، دون ولوجه :

أعطني يديك أيها الأعمى

فأيدي العميان… كجذور الرجال الجامدين.

تحترق حد التحمص في شمس كانون الثاني،

وحين يحل الخريف تشعر بقدوم الموت،

تعيش في الصمت مقطعات مرميات..

نافضة عن أصابعها نسالة الألم.

وتغزلها مجتمعة كرهبان متواضعين

كانوا يغزلون كلمات الآلهة.

يحمل العميان كل روحهم في هاتين اليدين

أخشنها الاحتكاك بأعضاء البشرية..

عبرت حاجز الألم راعشة بالحب

أصابعها الطويلة السوداء تهتز كأوتاد السفن

فتبدوان كحمامتي معجزة مقدستين

مهترئة ودامية من الليل والألم) (12)

ويضرب المقطع على أوتار الالتباس الذي توقعه الأشطر، عبر فجوة وجودية يظهر فيها الملموس مجرد مستشعر وصورة مفككة، لانسان أضاعه زمنه واختار الغنائية والأمثلة بديلا رمزيا عن متعة النظر، ليستعيض بالرؤية عن الرؤيا.

ففي (عودة الأعمى) لخالد المعالي، نقف على غربة الروح لمن يملك البصر ويفقد البصيرة، لأنه يسير ضد التيار :

كان يتكلم كالأعمى في جزيرة

روحه الراقدة بعدت

وليله مر منذ الصباح

لقد نسي من يومه

راحت ذاكرته تتيه

وصوته ارتفع في الأضاحي

تهدم بيته في الخيال

وأقماره انطفأت

كالأعمى عاد يسلك الطريق

ومن هناك، ألقى سرا

بتلويحة الوداع واختفى (13)

من المسودة الكلاسيكية إلى الرؤية المجهرية

ورغم الطابع الاستراتيجي في الاحالة على شواهد نصوص إبداعية عن تيمة (العمى)، وهي بعشرات الحالات إن لم تكن تتجاوزها في الاداب العالمية، لكن النظرة العجلى التي تعبر بها نظرية العماء قد لا تسمح لأي قارئ وخاصة غير المختص استكناه عماء الكلمة والشيء، إذ المعنى المعجمي وحده ما يعارض النظام والمعيار والقانون… ذلك أن المستهدف هو العماء المحدد وهو شبه نظام لا يسمح بتنبؤ تام، نظرا لاستعصاء الاحاطة بتعقده، لأنه يتطلب تحصيل أدوات في غاية الدقة الرياضية. ورغم جهود الفلاسفة الفرنسيين (ديريدا -دولوز-غاتاري) وإحالاتهم عليه، فقد ظلوا سجناء منطق، يدعي المفهوم الحالي للعماء تجاوزه…

ويمكن ادراج ثنائيتي (النظام -الفوضى) في نفس طموح الفيلسوف والسياسي مع باكونين، وهو يمجد فوضاه، الاشتراكية، لكنها جداليات تنفلت من عماء ماندلبروت، وتحلق بثقافة عامة تغري باقتحام السهل الممتنع.

من ثم، يلجأ روجي كافاي (Roger cavailles) إلى قراءة المسودة الكلاسيكية لرفع الالتباس بين العام والخاص والصدفة والاعتباطية، من منظور القراءة العالمة لاقراءة التداعيات والاسقاطات، واضعا بذلك خطه الفاصل بين العماء المحدد ومطلق العماء.

(فالمسودة الكلاسيكية (نظام /فوضى) متجاوزة، لأن العماء المحدد لا يختلط مع الفوضى ولا مع الصدفة. فمفهوم العماء هو اليوم أكثر غنى وأكثر تعقيدا من فوضى وصدفة، كما فهمتهما ورفضتهما العلوم التحليلية الكلاسيكية. لأن الفوضى فكر فيها لحد الان كغياب أو أزمة نظام، ونفس الشيء بالنسبة للصدفة التي عرفت دائما بطريقة سلبية، على أساس أنها جهل سواء تعلق الأمر بصدفة ذاتية وهي (جهل بالضرورة) أو حديثا الصدفة الموضوعية (كضرورة جهل)، أنه افتقاد للمعلومات دائما، لذلك كان العماء المحدد غنيا بالنظام الذي يتجاوزه و يحتويه، فالسلوك والتطور العمائي يطبعان بعدد من المزايا أو الخواص التي علينا تدقيقها…) (14)،

وبما أن النقلة لا تتم عبر الطفرة، فإن روجي كافاي، يقدم جسرا معرفيا لانتقال العماء من مجال العلوم المحضة إلى مجال العلوم الانسانية، وبالضبط إلى مجال اللغة والأدب، المطبوعين بالنسقية الانسانية، كشرط لتحقق النقلة من الثقافة الأصيلة إلى الثقافات الغيرية -لتكن العربية :

>هذه النقلات لها قواعدها هي قواعد تحولات التشابهات.. إذ في امكان مفهومي الشوش والعماء العمل خارج أوطانها الأصيلة، مع ادخالنا لمفهوم (البعد) والمجاز الاضافي، بعد الترحل والانتقال دون أن يتحللا… ألا يوجد بعد نقدي يتحول انطلاقا منه وينتقل متفقدا روحه أي دلالاته الأصلية….؟ عبر الأنساق الانسانية والمقطعيات التارخية والوضعيات الاجتماعية< (15)

فالوعي بمخاطر الانتقال وعبور الحقول المعرفية كان في صلب اهتمام روجي كافاي، الذي يدرك تماما مخاطر التكييفات والتطبيعات، دون أن ينكر عليه هذا الحق المندرج في الكليات الإنسانية، مذكرا بظواهر عماء (كرة الثلج) و (أنف كليوباترا) و (الأسباب الصغيرة المثيرة للقضايا الكبرى) كعلامات عمائية مشتركة، ذلك أن (بعض العلماء يعبرون عن تحفظهم من تصدير نظرية العماء.. إلى الايكولوجيا والاقتصاد والسوسيولوجيا. ورغم تكيفات المناطقة للاستدلالات التشبيهية تظل هذه الخطوة مثيرة للشك بدل التحمس، فالطوابع الظاهرة للعماء، توجد في عديد من الظواهر الانسانية… فالتحسيس بالشروط الأولية وجد منذ مدة في التاريخ، (انف كليوباترا)… على اعتبار أن منطق الأحداث التاريخية ليس منطقا للأفقية. إن بعض التعابير اللغوية الشائعة، يمكنها أن تضعنا على الطريق مثل (أسباب صغيرة لآثار كبيرة)… و (كرة الثلج) في الاقتصاد .

ففي محاولات من يريدون تفسير الظواهر عبر نظرية العماء، يظل الاستعمال أكثر وصفا منه تفسيرا فهم يشيرون إلى الظواهر والآثار دون الكشف حقا عن الميكانيزمات والأسباب. فالتشابهات لها حدود، والمجاز ليس تفسيرا أبدا، لأن المقارنة ليست عقلنة.

فنظرية العماء وأنماط (التعقد الشوشي) أو (الشوش العضوي) يمكنها وصف لعبة التعقيد وصدفة التداخلات والسلطة الابداعية لزمن . إلا أن الخطل هو في استدعاء ادعائها تقديم تفسير لهذه الظواهر..) (16)

صرعة التفكيك وبصيرة العمائية

يظهر أن الإهتمام بالمشاكلة والاختلاف والمشابهة والتشاكل، يدفع بالكثير من النقاد إلى ركوب قاطرة تشابه الظواهر، فالاستعارة والمجاز لم يكونا في يوم ما المعبر الأساسي لا للمقارنة ولا للعقلنة، بقدر ما كانا مظهرا للشوش البلاغي والتفسيرات المتضاربة، لماذا لا تقول ما يفهم أو لماذا لا تفهم ما يقال؟ فالاشكال لا يقوم على تفسير النظام اعتمادا على عماء الابداع أو العماء الأول، يقدر ما هو مقاربة لفهم وتعليل فوضى القول والحواس في العالم المنظم بالقانون والخطيئة والهفوة (أخلاقيا/عقائديا/ثقافيا) … بحثا في اللاطبيعي وغير العادي فيزيائيا وميتافيزيقيا، لمحاولة استشعار مظاهر العماء كخلل في مبدأ اللانظام والعقلانية.

فاستعادة النفايات و المتشظيات وكل المفاهيم المستبعدة والمختزلة، يؤكد على ظاهرة العماء ويحتفي بعودتها، لأن تفسير النظام يفوق بكثير تبرير الانظام، لذلك يقدم العلم اليوم نفسه كبحث في الزمن الضائع و الصدف الماكرة والاعتراف بالتعقيد، فعبر هذا الثالوث تتحقق معادلة العماء.. بعيدا عن اسطورية عماء مطلق، أو عماء بولتزمان (Boltzman) الذري، وقريبا من المقاربة المستفزة للعماء المحدد، الذي تعبر عنه لوحات مالد لبروت بتشظياتها وقراءتها المكبرة للجزئيات المعبرة عن التكون العام. من ثم، لم يكن من المستغرب أن يقرن بين التفكيك والعماء، في أعمال ما بعد الحداثيين وفلاسفة النقد الجديد وهم يحاورون الخطاب العلمي مقلصين المسافة بين الأدبي والرياضي، مع كينيث كنوسبل، إذ :

>في فترة تقدم في نظرية العماء والتفكيكية كمشروعين متقاربين في الندوات الأمريكية، نلاحظ سخرية أكيدة تستخلص من الطريقة التي ترد بها المزايدة الدريدية على الأطر الميتافيزيقية التي نمنحها لنظرية العماء. فالتفكيكية التي تحدت الفلاسفة ومنظري الأدب أن يتعرفوا على الطريقة التي يتحدد بها خطابهم، عبر افتراضات ميتافيزيقية متضمنة في اللغة قادرة على رصد الافتراضات اللوغوسية الحاضرة في الخطاب العلمي، وبالنسبة لديريدا فهيبة المحكيات التي تحيط بنظرية العماء، تعد مثالا جيدا على الطريقة التي استعملها الرياضيون (لاستكمال وتأكيد ثيولوجيا لوغوسية). وهذه التوجهات ليست برئية، وتذكر على خلاف ذلك أن الرياضيين يتموقعون غالبا داخل محكيات لوغوسية، لاضفاء الشرعية على نتائجهم وإعلان القدرة العالمية.

فلا يمكننا تحديد التفكيك في نظرية الأدب والفلسفة، لأنه يتحدى بالتالي الخطاب العلمي في أن يتعرف على الطريقة التي يعيد بها ميثيته، باستدعاء مؤسسي التقليد الغربي والأساطير المعممة عبر تاريخ العلوم.

وحين يريد ديريدا ارغامنا على ملاحظة طريقة الرياضيين في إمكانية تحقق سرديتهم عبر محكيات ميتافيزيقية فإن الرياضيين يسمحون لنا بمعرفة أن التفكيكية بدورها توضع داخل محكي، فبدل إضفاء الشرعية على مشروعها عبر الميتافيزيقا، تفسر التفكيكية تقعيدها لعلم الكتابة وعلم النحو عبر الرياضيات< (17)

لقد كانت محاولات التقريب بين التفكيكي والعمائي اعترافا بالكليات الانسانية، ومشروعا لردم الهوة الفاصلة بين الأدب والفلسفة من جهة، ولغة الأدب والعلم من جهة ثانية، مادامت الفوضى تتسلل إلى خطاباتهم بنفس المستوى، وإن لم تكن بنفس الدرجة، وما دام التناقض والتكامل يخترقان هذه الخطابات ويقودنها نحو محكيات تفجر النظام في عمائيته، حيث :

>تتكامل التفكيكية ونظرية العماء كما تتناقضان على التوالي. فالتفكيكية لا تكتفي بقبول نظرية العماء كشريك في مشروعها المتزحزح، بل تطالب نظرية العماء الاعتراف بالطريقة التي يساهم بها محكي درسهم في تثبيتها وأسطرتها، وبدورها تتحدى نظرية العماء مطبقي التقكيكية اعترافهم إلى أي حد استعمل ديريدا الرياضيات لتثبيت علم نحوه، فتحليل المناهج الموظفة عند الاثنين، حتى تصير محكيا وتصبح سلطة مرجعية للأخرى، يسمح بإدراك إحدى الطرق الرئيسية التي تنتظم بها الفوضى….

فالعلم كالخطاب الثقافي، لا يمكن اعتبار أحدهما توجها نحو صياغة محكي نظري، لحاجتهما إلى الأخذ في الاعتبار المحكيات الصغرى التي تفجر النظام من العماء…< (18)

ويبدو أن تقريب التفكيكية من العماء يعد تقريبا يعتمد على عدم تأكيد حضورها في حد ذاتها، بل من تحددها في إطار العلاقة الجدلية، التي تربطها بالغياب وتحدد ذلك التعالق الجدلي للنظام مع الاعتباطية. فبلاغة التكرار في النظام والتفكيك، لا تفهم إلا في حدود وضعها وتموضعها ضمن كل عبور ثقافي من مرحلة إلى أخرى متقدمة.

لذلك كان الحضور والغياب في التفكيكية يقابلهما النظام والاعتباط في العماء .. وهي جدلية تدفع بنقادها إلى الكشف عن توالد الاشكال الثقافية، إذ تأتي التشابهات والمقايسات لتقريب الظواهر من أنساقها العامة.

—————————————–

الهوامش

1- نظر في هذا المجال

– Antoine Compagnon, Le Démon de la théorie, Ed. le Seuil, 1998

Jeremy Hawthorn, Contemporary literary theory, by Edouard Arnold, 1992

Earl Miner, Comparative poetics An intercultural Essay on Theories of literature, by Princeton univ. Press, 1990

Philippe Queau, Eloge de la simulation : de la vie des langages à la synthèse des images, Ed. Vallon, 1999

2- Michel Serres, Genese, Ed. Grasset, 1982, pp. 15.16

3- James Gleick, La Théorie du chaos : vers une nouvelle science. Tr. Christian Jeanumougine, Ed. Flammarion, 1991, p. 230

4- Alain Boutot, La Philosophie du chaos, Revue Philo, n_ 2 , 1992, p. 146

5- James Gleick, op. cit., p. 18

6- James Gleick, op. cit. p. 20

7- James Gleick, op. cit. p. 24

8- Benoit Mandelbrot, Fractales, hasard, et Finance, Ed. Flammarion, 1997, p.33

9 – مالكوم برادبري وجيمس كلافن : الحداثة، مؤيد حسن فوزي، ط دار المأمون، بغداد ، 1987 ص 19

10- موريس ماترلنك، العميان، ت . عبدو كاسوحة، سلسلة المسرح العالمي، الكويت 1999، ( المقدمة ) ص 9.

11 – نفسه ص 11

12 – بابلو نيرودا : الأرواح تسعد نفسها بنفسها أرواح قوية، ت . محسن الرملي، نزوى 19 يوليو 1999 ص 155.

13 خالد المعالي، العودة من المنفى ، نزوى 19 ، يوليو 1999 ، ص 172

14 – Roger Cavailles, Histoires parallèles du “bruit”, Rev. LTE, Ed. PUF, Paris, 1994, pp. 30-31

15 – Roger Cavailles, op. cit., p. 37

16 – Roger Cavailles, op. cit. p. 38

17 – Kenneth Knoespel, L’Ecriture, le chaos et la démystification des mathématiques, Rev. LTE, PUF, Paris, 1994, pp. 46-47

18 – Kenneth Knoespel, op. cit. p. 64