من المعرفة اللغوية إلى المعرفة النصية أو الحديث عن ضوابط التأويل

Bengrad
2021-06-04T11:23:03+00:00
العدد الثالث عشر
17 أغسطس 2020360 مشاهدة

أحمد الفوحي – كلية الآداب -مكناس

تتناول هذه المقالة مسألة تحديد ضوابط تأويل النص. ولما كان هذا الأخير، نتاجا لغويا وجب البحث عن شروط إنتاجه وتلقيه، وهو ما يعرف في الأدبيات اللسانية بالقدرة والإنجاز.

فهل تكفي القدرة اللسانية لتلقي النص وتأويله؟ أم لا بد من البحث في مجال آخر هو القدرة النصية؟ وهل تقوم هذه القدرة على المعرفة اللغوية وحدها، أم على عوامل وعناصر أخرى تسهم في عملية إنتاج النص؟

1- عن المعرفتين اللغوية والنصية والتأويل :

كان من الأسس التي قامت عليها اللسانيات الحديثة مفهوما القدرة والإنجاز، فكل متكلم /مستمع مثالي (1) يتوفر على قدرة لسانية تتمثل في معرفته الباطنية بجميع قواعد لغته التي ينشأ في محيطها. وهذه القدرة هي التي تمكنه من إنتاج وفهم عدد لا نهائي من التعابير والجمل انطلاقا من تجربة اكتساب لغوي بسيطة. وهذه القدرة تمثل الكل المحتمل للمعرفة اللغوية، وأما الانجاز فهو التحقيق الفعلي لملكة اللغة وفق سياقات معينة، تتدخل فيها درجة الانتباه وطبيعة الموضوع ومستوى الذاكرة… إلخ. ولهذه الأسباب لم يكن الإنجاز المعادل الفعلي للقدرة، فالعلاقة بينهما هي علاقة الجزء المحقق بالكل المحتمل.

وهذه الثنائية مما لا بد منه في إدراك النصوص وفهمها وتأويلها؛ إلا أنها غير كافية. فكان افتراض القدرة النصية التي تفسر إنتاج النصوص وفهمها.

فالنص، وإن كان يقوم على المادة اللغوية، شبكة من العلاقات، تمتاز مكوناته بالانسجام والتماسك والعضوية والترابط والدينامية. كما تمتاز بتسلسل الملفوظات ووضوح العلاقات القائمة بين مكوناته وتقدم سيرورة الأفكار والأحاسيس. ونميز في النصوص بين النص الأدبي والنص البراغماتي (2). فمما يتميز به النص الأدبي مثلا أنه :

– تعبير عن نظرة المؤلف للعالم وتصوره للحقيقة الموصوفة.

– عمل تخييلي خلاق يشتمل على طاقة إيحائية، فلا يتم التعبير عن المحتوى كله، إذ يبقى جانب من المعنى غير معبر عنه .

– يجعل الأولوية للشكل أو الصورة، مما يجعل الاستعارات كثيرة ومتعددة.

– كلما كان النص الأدبي غنيا، تداخلت المستويات وتراكبت وأمكن تأويله تأويلات متعددة، وتعددت معانيه بتعدد القراء واختلاف حالات تلقيهم إياه .

– يمتاز باللازمنية أو الخلود، لاشتماله على قيم إنسانية كونية لا تنحصر في عصر من العصور.

– ذو فنية وجمالية ومحتوى مرجعي معين.

وأما النصوص التاريخية (3) فغير مرشحة للتأويل لعدم توفرها على الغموض أحد ركائز الشعرية(4). فالوثيقة التاريخية تصف أشياء الواقع ولا توحي بها إيحاء فنيا .

والتأويل هو الطريق المؤدية إلى معنى كلمة أو ملفوظ أو نص. وتفسير ظاهرة معينة يقوم، أولا، على التمكن من تفكيك ميكانيزماتها؛ وفيه تكون الإنطلاقة من دلالة العلامات اللسانية في النسق، للوصول إلى اكتشاف دلالاتها داخل النص، فيتم الانتقال من البنيات اللسانية المغلقة، إلى بنيات التجربة التي تبقى مفتوحة أبدا. والنص لا يشتمل على المعنى وإنما يدل على طريقه، فالعلامات التي تكونه لا تحيل على نفسها وإنما على شيء آخر يستفاد من السياق ووسائط التلفظ المقامية.

والتأويل عملية بحث عن شروط إنتاج النص وإنتاج الدلالات المرتبطة به. ولابد فيه من الحديث عن الظروف المقامية الخاصة بكل فعل قراءة. فالذات القارئة تقوم بتحيين معطيات الموسوعة الثقافية وفق حاجات يفترضها النص لكي يسلم مفاتيح قراءاته (5)، ولهذا التحيين أوجه متعددة تتمثل في >الممكنات التأويلية القابلة للتجسيد من خلال القراءات المتنوعة< (6) .

فالتأويلية أو الهرمينوطيقا علم ينظم استراتيجية القراءة، وتقوم على أسس ثلاثة:

1-لحظة التلقي الذوقي وفيها يتم استشعار جمالية النص منذ الوهلة الأولى، وإدراك الفارق بين الاستعمال اللغوي التقليدي كما سنته المؤسسة اللغوية وبين الاستعمال العدولي عنها .

2- لحظة التأويل الاسترجاعي ، وهي لحظة استجلاء المعنى انطلاقا من المبنى، وتأويل النص باعتماد مبانيه المجازية وأشكال الخرق والعدول. ومقياس نجاح النص الأدبي رهين بمدى حثه القارئ على التأويل واستخلاص المعنى.

3- لحظة الفهم أو بناء أفق استشراف المتلقي انطلاقا من كون النص جوابا عن سؤال في زمن إنشائه. وهذه المرحلة تتطلب التوغل في ثنايا النص. ويكون البحث عن المقصد : هو الأساس فيه، وهذا المقصد لا يتبينه القارئ إلا بتنزيل النص ضمن سياقه التاريخي. فكأنما المعنى المتوصل إليه بالتأويل لا تفك مغالقه إلا برصد دلالة تاريخية له (7).

2- نماذج وتطبيقات

جاء في باب >فيما يؤمنه علم العربية من الاعتقادات الدينية< في الخصائص (8) لابن جني أن أكثر اللغة جار على المجاز، وقلما يخرج الشيء منها على الحقيقة. ومن الأمثلة التي أوردها قوله تعالى : >أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون < (يس (71). فلو قال قائل إن الله له أيدي لكان منكرا من القول كبيرا؛ وإنما المراد باليد القوة، فكأنه قال : مما عملته قوانا أي القوى التي أعطيناها الأشياء، فهو، تعالى، ليس جسما تحله القوة أو الضعف.

وجاء في >باب التفسير على المعنى دون اللفظ< أن >أكثر ما ترى من هذه الآراء المختلفة، والأقوال المستشفة إنما دعا إليها القائلين بها تعلقهم بظواهر هذه الأماكن، دون أن يبحثوا عن سر معانيها، ومعاقد مقاصدها< (9) .

من ذلك قولهم : أهلَك والليل، فإذا فسروه قالوا : أراد : إلحق أهلك قبل الليل، وهذا تفسير المعنى لا تقدير الإعراب، أي ينبغي البحث عن المعنى الكامن المضمر لا ما يؤديه ظاهر اللفظ. فإذا تجاذب المعنى واللفظ (الإعراب) كانت الكلمة للمعنى في التأويل والتفسير، من ذلك قوله تعالى : >إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر< (الطارق 8-9). فظاهر اللفظ والاعراب يعلق الظرف >يوم< ب >قادر< وهذا المعنى مما لم تنعقد عليه الآيتان، وإنما التقدير أن الظرف متعلق بالرجع لا بالقدرة. ويؤول الكلام على النحو التالي : إنه على رجعه يوم تبلى السرائر لقادر (10).

ومن النصوص المتعلقة باستحضار سياق التلفظ في تأويل النص ما جاء في >باب في أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض ما نسبناه إليها وحملناه عليها < ومن قول ابن جني : >ألا ترى إلى قوله :

تقول : وصكت وجهها بيمينها أبعلي هذا بالرحى المتقاعس!

فلو قال حاكيا عنها : أبعلي هذا بالرحى المتقاعس -من غير أن يذكر صك الوجه -لأعلمنا بذلك أنها كانت متعجبة منكرة، لكنه لما حكى الحال فقال :(وصكت وجهها) علم بذلك قوة إنكارها، وتعاظم الصورة لها، هذا مع أنك سامع لحكاية الحال غير مشاهد لها، ولو شاهدتها لكنت بها أعرف، ولعظم الحال في نفس تلك المرأة أبين، وقد قيل (ليس المخبر كالمعاين). ولو لم ينقل إلينا الشاعر حال هذه المرأة… لم نعرف به حقيقة تعاظم الأمر لها< (12)، فحكاية الحال هاته هي التي تمكن المتلقي من فهم مراد القائل واستحضار شروط إنتاج النص المقامية.

ومما يتعلق بثنائية المعرفة اللغوية والمعرفة النصية ما جاء في موضع آخر من الخصائص، يقول ابن جني (13): >ولهذا الموضع نفسه ما توقف أبو بكر (14) عن كثير مما أسرع إليه أبو إسحاق (15) من ارتكاب طريق الاشتقاق، واحتج أبو بكر عليه بأنه لا يؤمن أن تكون هذه الألفاظ المنقولة إلينا قد كانت لها أسباب لم نشاهدها، ولم نر ما حديثها، ومثل له بقولهم (رفع عقيرته) إذا رفع صوته. قال له أبو بكر : فلو ذهبنا نشتق لقولهم (ع ق ر) من معنى الصوت لبعد الأمر جدا، وإنما هو أن رجلا قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى، ثم نادى وصرخ بأعلى صوته ، فقال الناس : رفع عقيرته، أي رجله المعقورة<. فلا بد للمؤول من أن يدرك أسباب النص لفهم المعنى الفهم الصحيح وألا يكتفي بما يؤديه إليه علم الاشتقاق أو النحو…

فالمعاني الظاهرة تخفي وراءها معاني أخرى قد تكون هي ما أراد القائل التعبير عنه. يروى في السنة أنه لما أنزلت سورة النصر سأل عمر بن الخطاب جماعة من الصحابة عن معناها، فلم يتعد جوابهم ظاهر الآية من كونها تبشر المسلمين باتساع رقعة الاسلام وانتصار دين الله. ولما سأل ابن عباس، وكان غلاما يستصغره بعض الصحابة لحداثة سنه، كان جوابه أن هذه السورة نزلت لتعني الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أن لكل بداية نهاية، وأن الذي أدى مهمة ما، عليه أن يستغفر ربه مما يكون قد فاته، ويكثر من التسبيح استعدادا للقاء الله. فما قام به ابن عباس تأويل لم ينطلق من العناصر اللغوية المكونة للنص ومعانيها المباشرة، وإنما من المعرفة المستقاة من محيط السورة وظروف التلفظ.

وقد يقول قائل، في قوله تعالى : >إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء، والله لا يحب الظالمين< (آل عمران140)، إن ما يحل بالمسلمين من تقتيل وتشريد راجع إلى سنة الله في الكون، وأنه عز وجل تأذن أن يتخذ من المسلمين شهداء. ولكن المتأمل في الآية يستنتج أن الشهداء هنا، وإن كان المفسرون أجمعوا على أنهم شهداء أحد الذين فاتتهم الشهادة يوم بدر، هم شهود الله على الخلائق عندما تعقد محكمة الجزاء الكبرى. وحتى تكون الحجة قائمة على المكذبين سيجد هؤلاء من بني جنسهم من يشهد عليهم مصداقا لقوله تعالى : > وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا < (البقرة 143). ومعلوم أن الشهيد في سبيل الله أحق بالشهادة من غيره بعد الانبياء والصديقين. ولكن ارتباط لفظة شهداء بالفعل ليتخذ على صيغة افتعل يفتعل يقوى هذا التأويل. فصيغة افتعل تعرف بالصيغة التي يلتقي فيها الفاعل والمفعول أي أن الفاعل يصدر الفعل عنه ويقع عليه، وهذا ما يعرف في الدراسات النحوية بالصيغة الوسطىDiathèse médiane أو الإنعكاس Réflexivité.

ومما ينبغي التنبيه إليه في عملية تلقي النصوص وتأويلها تطور الحمولة الدلالية للألفاظ بتغير الزمان، وعدم الوقوع في الإسقاط، خصوصا إذا كانت بعض المصطلحات والمفاهيم نشأت في بيئة معينة. من ذلك مثلا القول بثورة الزنج والقرامطة واشتراكية أبي ذر ورأسمالية أبي فلان، في زمن لم يكن لهذه المفاهيم أي أثر. وعلى هذا لا ينبغي أن يفهم الثائر، في قول القائل:

أزيد أخا ورقاء إن كنت ثائرا فقد عرضت أحناء حق فخاصم

وقول الآخر :

طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر لها نفذ لولا الشعاع أضاءها

ما نفهمه في عصرنا من قولنا تشي غيفارا، الثائر البوليفي، أو الثورة الثقافية لماوتسي تونغ… وإنما الثائر هو من يطلب حقا بدم حتى يدرك ثأره .

3- يتبين ، مما سبق، أن التأويل مرتبط بالمعرفتين اللغوية والنصية، وأن تحديد الضوابط كفيل بإخراج التأويل على الوجه المقبول، ورد المزالق التي يقع فيها متلقي النص إذا لم يستحضر شروط إنتاج النص المقامية للوصول إلى مراد القائل ومراد القول. وكأني بالنص يقول للمتلقي المؤول على لسان عمار الكلبي :

ما كل قولي مشروحا لكم، فخذوا ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا

——————————————-

الإحالات والهوامش

1- المراد بالمتكلم /المستمع المثالي الكائن البشري السوي الذي لا يعوقه معوق عن تحقيق ملكته اللغوية وقدرته اللسانية .

2- يراد بالنصوص البراغماتية النصوص التقريرية كالمقالات الصحافية والمراسلات العامة، والوثائق المتعلقة بالسياحة والتقارير الرسمية… ينظر في هذا كتاب: L’analyse du discours comme méthode de traduction لصاحبه Jean Delisle الصادر عن منشورات جامعة أوطاوى، كندا 1982 ص 22.

3- باعتبار التاريخ، كما ينبغي له أن يكون، تدوينا لوقائع حياتية بطريقة محايدة حتى لا تتعرض الحقائق للتزييف أو التحريف، كالوصفة الطبية مثلا. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الذريعة التي تتمسك بها إسرائيل في عدم تنفيذ القرار الأممي رقم 242 حول الأراضي المحتلة اختلاف الصيغتين الانجليزية والفرنسية في تحديد الأراضي المحتلة.

4- محمد بنعياد >التلقي والتأويل<، مجلة علامات، ع 10، أكتوبر 1998، ص 9 وما بعدها.

5- سعيد بنگراد >السميوزيس والقراءة والتأويل< مجلة علامات ع 10 أكتوبر 1998، ص 50.

6- المرجع السابق

7- محمد بنعياد، مرجع سابق

8- الخصائص، ج 3، تحقيق م علي النجار، دار الكتاب العربي بيروت مطبعة دار الكتب المصرية 1955، ص. 245 وما بعدها. 9- المصدر نفسه، ص 260.

10- >باب في تجاذب المعاني والإعراب < الخصائص ج 3 ص 255.

11-الخصائص ج 1 ص 237-251.

12-المصدر السابق ص،ص 245-246.

13- المصدر السابق ص 248، وتنظر المسألة نفسها في نفس الجزء ص 66.

14-هو أبو بكر ابن السراج صاحب كتاب الأصول في النحو، وهو من تلامذة المبرد، توفي سنة 316هـ.

15-هو ابراهيم بن السري أبو إسحاق المشهور بالزجاج، كان من تلامذة المبرد، وكان مولعا بالاشتقاق، كانت وفاته سنة 310 هـ. .