عن الكذب

Bengrad
2021-06-04T11:22:50+00:00
العدد الثالث عشر
17 أغسطس 2020346 مشاهدة

ميشيل دو مونتيني

ترجمة وتقديم : عبدالعلي اليزمي

نقدم هنا للقارئ المغربي الفصل الثامن عشر من الكتاب الثاني من المحاولات لصاحبه ميشيل دو مونتيني، بعد أن سبق التعريف بالكاتب وببعض الشذرات من مؤلفه هذا في العدد الرابع من مجلة علامات. ولن نبالغ إذا قلنا إن المحاولات تعد من أمتع ما كتب في الأدب الفرنسي كما أنها تعد نموذجا مميزا للفكر الحي المستنير. وما أحوجنا في مثل هذه الظروف للعودة إلى كتب من هذا القبيل نقرأها ونعيد قراءتها، علنا نقتطف من صفحاتها زادا للطريق يساعدنا على المشي في زمن صار فيه التعصب يشد أكثر فأكثر بخناق الفكر الحر.

يتطرق مونتيني في هذا النص لموضوعين على جانب كبير من الأهمية؛ ويتعلق الأول بالحديث عن الذات ومن خلاله يحاول الكاتب أن يعالج بعض المشاكل المرتبطة بالكتابة عن الذات ويظهر كيف عمل على تجاوزها، أما الموضوع الثاني فيخص الكذب ودوره في إفساد العلاقة بين الناس. ويشدد مونتيني على أن ما يشد الناس بعضهم إلى بعض هو الكلام ( نصف الكلام للمتحدث ونصفه الآخر للمستمع ) ولذا، فإن أي مساس بصدق الكلمة يؤثر سلبا على الصلة التي تربط البشر فيما بينهم. ولا شك أن خيطا دقيقا يجمع بين الموضوعين، ويمكن تلخيصه في كلمة واحدة وهي الصدق، فبالصدق نصل إلى قرارة أنفسنا وبالصدق نتواصل فعلا مع الآخرين .

عن الكذب

سيقول لي البعض إن الخوض في مجال الكتابة عن الذات يليق فقط بأقلية من الرجال العظماء الذين كانت شهرتهم تشكل حافزا للتعرف عليهم. وأنا أعترف بصحة اعتراضهم، وأعرف جيدا أن أبسط حرفي لن يرفع بصره لينظر إلى أحد العامة في حين أن وصول رجل عظيم ومشهور سيجعل المصانع والحوانيت خالية لرغبة الجميع في رؤيته. فمن غير اللائق بإنسان ما أن يعرف بنفسه، اللهم إذا كان يشكل مثالا يقتدى به، وكانت حياته وآراؤه نموذجا للآخرين. إننا نجد في أعمال قيصر وكسينوفون العظيمة ما يدعم ويسند رواياتهم ويجعلها صادقة. ولا يسعنا إلا أن نتحسر عن ضياع يوميات الإسكندر العظيم وتعليقات أوغوستوس وكاتون وسيلا وبروتوس وآخرين غيرهم ممن كتبوا عن إنجازاتهم. إن هذه الطينة من الناس محبوبة وتستحق أن ندرس سيرتها ولو كانت حديدا وحجرا.

إنني لست من طينة الكتاب الذين تحدث عنهم الشاعر:

” أنا لا أقرأ كتابي هذا سوى لأصدقائي ومتى طلبوا مني ذلك

لا أقرأه في كل الأمكنة وأمام أي مستمع

كثيرون هم الكتاب الذين يقرأون كتبهم في الملتقيات والحمامات ”

أنا لا أشيد هنا تمثالا ينصب في ملتقى الطرق بمدينة ما أو في كنيسة ما أو في ساحة عمومية :

أنا لا أهدف إلى حشو هذه الصفحات بالترهات المتورمة، إن الأمر يتعلق بحديث رأسا لرأس.

إن كتابي سيجد مكانه في ركن بمكتبة ما، وسيصلح للترفيه عن جار أو قريب أو صديق، سيجد متعة في معاشرتي والتعرف على صورتي كما هي. إن الآخرين يستصيغون الحديث عن أنفسهم لأنهم وجدوا فيها موضوعا غنيا ذا أهمية، أما أنا فعلى عكسهم، أتحدث عن نفسي لأني وجدت ذاتي عقيمة وهزيلة لدرجة تدفع عني تهمة الغرور. إنني أقيم تصرفات الآخرين بسهولة أما تصرفاتي فهي غير خاضعة للتقييم لتفاهتها وعدميتها. أنا لا أجد في ذاتي شيئا إيجابيا يمكن أن أتحدث عنه دون أن تحمر وجنتاي.

ستكون فرحتي كبيرة لو وجدت من يحدثني عن أخلاق وشكل وهيئة وكلمات وحالات وسيرة أسلافي. سأستمع إليه بكل شغف واهتمام. إنه لمن قلة الأدب أن نستصغر سيرة أصدقائنا ومن سبقونا، وأن نغض الطرف عن كل ما يتعلق بطريقة عيشهم. فأنا أحتفظ بمخطوط وختم ويوميات وسيف كانوا في ملك أسلافي، كما لازلت أحتفظ في مقصورتي بعصا طويلة كان أبي يأخذها في يده عند المشي.

إذا كان لأحفادي رأي آخر في المسألة فسأكون قد ثأرت لنفسي مسبقا، إذ أنهم لن يتجاهلوني أكثر مما أتجاهلهم أنا الآن. إن كل علاقتي مع الجمهور في هذا المضمار تتلخص في أني أستلف منه أدوات الكتابة الأكثر تلقائية والأكثر طبيعية. وفي مقابل هذا ربما كان لكتابي الفضل في حفظ قطعة زبدة من الذوبان.

” فلتصلح غلافا لسمك التون وللزيتون، ولتكن معاطف لشتى أنواع السمك “.

وحتى لو لم يقرأني أحد، فلن أكون قد أضعت وقتي وأنا أناجي نفسي في ساعات الفراغ هاته وأحدثها في مواضيع مفيدة وممتعة. أثناء سبك هذا الشكل أجد نفسي في الكثير من الأحيان أقوم بتعديله وتنقيحه ونتيجة لمجهوداتي صرت أحسن مما كنت. خلال محاولتي لرسم نفسي لكي يراها الآخرون، قمت برسم داخلي بألوان أكثر قوة. أنا لم أصنع هذا الكتاب أكثر مما صنعني هو، إنه كتاب ملتصق بكاتبه، يشكل شغله الشاغل ونشاطه الخاص، إنه على خلاف الكتب الأخرى التي تشكل بالنسبة لأصحابها شغلا إضافيا وغريبا عنهم. هل سأكون قد ضيعت وقتي وأنا أقتفي آثار خطاي باهتمام وانتباه ؟ فأولئك الذين يفكرون في ذاتهم إثر نزوة عابرة ويتحدثون شفويا عن أنفسهم ساعة من الزمن لا يستطيعون أن يفحصوا أنفسهم بشكل أساسي، كما لا يستطيعون أن يلجوا إلى قرارة أنفسهم كما هو الحال بالنسبة لذاك الذي جعل من ذاته موضوعا لدراسته وشغله وصنعته فترة طويلة يستنفر فيها كل جهده.

إن أمتع اللذات هي تلك التي نستمتع بها داخليا والتي لا تترك أثرا لها وتكون بعيدة عن أنظار العامة والآخر. وكم مرة جنبني هذا الكتاب التخمينات المملة، وكل التخمينات الخفيفة مملة. إن الطبيعة وهبتنا القدرة على مناجاة الذات، وتدفعنا إلى ذلك دفعا في غالب الأحيان لتعلمنا أننا مدينون للمجتمع بجزء، هم الأحسن، من ذاتنا. ولكي أتمكن من تتبع آثار أحلامي بانتظام وتجنب التيهان والضياع ما علي سوى أن أعطيها صلابة عبر تدوين وتسجيل أبسط الأفكار التي تدور بمخيلتي. إنني أرهف السمع لأحلامي لأنني أريد أن أدونها. وكم مرة صببت جام غضبي هنا على بعض الممارسات التي كانت اللياقة تدفعني للتغاضي عنها، ومن المؤكد أن الأمر لا يخلو من بعد تعليمي. ولا شك أن وقع الكلمات على الورق أقسى من وقع العصي على الجلد. هل في الأمر عجبا إن كنت أرهف السمع للكتب منذ أن صرت أتحين الفرص لأبحث عما يمكنني أن أتلصصه منها لأجذل به كتابي وأزيد من حجمه ؟

إنني لم أدرس لأصنع كتابا، ولو أنني درست قليلا لأنني صنعته؛ هذا إذا اعتبرنا لمس الكتب وأخذ بعض الشذرات من هنا وهناك دراسة، وكان ذلك دائما ليس دائما بهدف تشكيل آرائي بل لدعمها وإسنادها.

ولكن من ذا الذي نصدقه القول عندما يحدثنا عن نفسه في زمن رديء مثل زمننا هذا، ما دمنا لا نجد إلا نفرا قليلا ممن يمكن أن نصدقهم القول وهو يتحدثون عن أنفسهم وهو موضوع لا فائدة للكذب فيه ؟ إن أولى علامات فساد الأخلاق هي نبذ الحقيقة، فكما يقول باندار، الكينونة الحقيقية هي بداية فضيلة عظمى، وهي أول قانون يفترضه أفلاطون في حكومة جمهوريته. إن حقيقتنا الآن ليست هي ما هو كائن بل هي ما نقنع به الآخر : كما أننا نسمي عملة النقود المسكوكة قانونيا وأيضا النقود المزورة التي يتم التعامل بها. إن الكذب من بين المآخذ التي نآخذ بها منذ زمن قديم، ذلك أن سالفيانوس ماسيلينيس، الذي عاصر الأمبراطور فالنتيان، قال بأن الفرنسيين لا يعتبرون الكذب وإطلاق الكلام على عواهنه مذمة بل طريقة في الكلام. ولمن أراد المزايدة في الكلام أن يقول إن الكذب أصبح الآن فضيلة يقتدى بها ويتعلمها الناس كما لو تعلق الأمر بممارسة نبيلة، فالنفاق أصبح من الفضائل المثلى في هذا العصر.

ولقد حاولت مرارا أن أستكشف منبع العادة الملتصقة بنا أشد الالتصاق والتي تجعلنا نحس بالإهانة الشديدة عندما ننعت بالكذب في حين أن الكذب مسألة في حكم المعتاد بالنسبة إلينا. وأكبر مهانة يمكن أن توجه لنا هي تهمة الكذب. وأرى في هذا الصدد أنه من الطبيعي أن ندافع عن أنفسنا بشدة من مذمة هي شديدة الالتصاق بنا. ويبدو أننا نحس بأن أصابع الاتهام موجهة إلينا ونتوتر، وهكذا فإننا نخفف بعض الشيء من حدة خطئنا. وإذا كنا كذابين فعلا، فإننا ندين هذا التصرف ظاهريا. أليس حقيقيا أن هذا التصرف محاولة للتغطية عن جبننا وخوفنا. أيوجد جبن وخوف أكثر قوة من التخلي عما قلناه، وعما نعرفه.

إن الكذب مذمة خبيثة، وقد صوره أحد القدماء بشكل مهين عندما قال بأنه علامة على احتقار الرب والخوف من الناس. ليس من الممكن أن يصور الكذب ببشاعة وقبح وعيب أكبر من هذا. كيف يمكن لنا أن نتخيل شيئا أكثر قبحا من أن يخاف الإنسان الإنسان ولا يخاف الرب ؟ مادام التفاهم بين البشر يتم عن طريق الكلام فإن كل من يحرف الكلام يخون المجتمع. إن الكلام هو الأداة التي تتواصل بها إراداتنا وأفكارنا، إنه التعبير عن أرواحنا، فإذا افتقدناه انفكت أواصر العلاقات بيننا وصرنا غرباء بالنسبة لبعضن البعض. فإذا خاننا الكلام تحللت الوشائج الاجتماعية التي تؤلف بيننا.

إن بعض الأمم في الهند الجديدة ( لا حاجة لنا بذكر أسمائها، فهي لم تعد موجودة إذ أنه تم محوالأسماء والمعرفة القديمة للأماكن وانتشر الخراب بعد غزو هذه المنطقة بشكل غريب لم يسمع به من قبل ) كانت تقدم كقربان لآلهتها الدم البشري الذي يستخرج من الألسن والآذان للتكفير عن خطيئة الكذب سواء كان مسموعا أم منطوقا. وها هو ليساندر من اليونان يقول بأن الأطفال يلعبون بالعظام والرجال بالكلمات.

أما فيما يخص عاداتنا في الكذب وقوانين الشرف في هذا المجال والتحولات التي طرأت عليها، فذاك ما سأتحدث عنه في مناسبة أخرى، وسأحاول أن أعرف، إذا أمكن ذلك، متى بدأت تلك العادة في وزن وقياس الكلام وربطها بشرفنا لأنه من السهل أن نجزم بأنها لم تكن تمارس قديما بين الرومان واليونانيين ، وكثيرا ما بدا لي غريبا وجديدا أن أراهم يكذبون ويشتمون بعضهم البعض دون أن يتعاركوا ؛ إن قوانين الواجب عندهم كانت تأخذ طريقا مغايرا لذاك الذي نتبعه نحن، وكانوا يلقبون قيصر تارة باللص وتارة بالسكير وذلك بحضوره. إننا نرى كيف كانوا يشتمون بعضهم البعض بحرية ، وأنا أتحدث عن كلتا الأمتين وعن قاداتها الكبار، وكانت الكلمات لا تأخذ ثأرها إلا بالكلمات دون أن يؤدي الأمر إلى ما لا تحمد عقباه.