تاريخ الأدب من منظور الشكلانية وجمالية التلقي

Bengrad
2021-06-04T11:22:37+00:00
العدد الثالث عشر
17 أغسطس 2020531 مشاهدة

الهاشم اسمهر

توطئة

ما الذي يمكن أن يجمع بين دراسات ظهرت في أنساق ثقافية ومراحل متمايزة؟ بل ما الذي يمكن أن يكون مبررا لتناولها اليوم؟

أما ما يمكن أن يجمع بين هذه الدراسات فهاجس تاريخ الأدب والتاريخ الأدبي. أما المبرر فتتبع صيرورة مفهوم أريد له أن يحمل كل مرة هالات نظرية متميزة. إن راهنية هذه الأعمال التي ابتدأت منذ العقد الثالث من هذا القرن مع يوري تينيانوف (تاريخ كتابة مقاله ”حول التطور الأدبي” ) لتنتهي مع هانس روبيرت ياوس غداة أفول عقد الستينات، تكمن بالذات في قوتها النظرية وصبغتها التأسيسية التجديدية لمسار مبحث تاريخ الأدب : إنها دراسات رائدة فسحت مجالا للتأمل والمساءلة. ثم لا ضير إن كان الهدف أيضا هو الوقوف عند تاريخية هذه الأعمال ذاتها : يبدو أن التاريخ قدر يطال الجميع .

يتعلق الأمر إذن برصد نقد منهج تاريخ الأدب واقتراح بدائل عند دارسين تركوا بصماتهم على الدراسات الأدبية الغربية (إذا كان لا بد من توحيد مجال الرؤية) فأسهموا في جعل هذا المبحث متجددا باستمرار بشكل أضحى فيه المفهوم نفسه منفتحا على صيرورة من البناء وإعادة البناء بل أصبحت فيه الطروحات ذاتها يتجاوز بعضها البعض.

وهكذا سنقف عند تصور الشكلانيين الروس في شخص الباحث يوري تينيانوف لمفهوم التطور الأدبي الذي أصبح عندهم تعاقبا للأنساق والوظائف، ثم سنمر إلى طروحات جيرار جنيت لنحاول رصد تصوره عن التاريخ الأدبي من زاوية الأشكال الأدبية، لننتهي إلى أفكار ياوس بهذا الشأن استنادا إلى مسلسل القراءة والتلقي.

ولعل الدارسين العرب أحوج ما يكونون إلى الاستفادة من هذه الأفكار وغيرها. ليس لإعادة كتابة تاريخ الأدب العربي بل للتفكير في مشاريع تواريخ مستقبلية خصوصا أن الأدب قد حقق بالفعل تراكما كميا ونوعيا لا سبيل لتجاهله.

1 – تينيانوف : التاريخ الأدبي أو التطور الأدبي.

يذهب تينيانوف في مقاله ”حول التطور الأدبي” إلى القول إن وضعية مبحث التاريخ الأدبي تماما كوضعية أرض مستعمرة ! ذلك أنه تتنازعه مقاربتان : المقاربة السيكولوجية الفردانية التي تستبدل الظواهر الأدبية بالتطور الأدبي، والمقاربة السببية ضيقة الأفق التي تعزل الصيرورة الأدبية بناء على موقع الباحث الملاحظ ، وفضلا عن هذا فإن نظرية القيم في العلم الأدبي قد اهتمت بالظواهر الأدبية الأساسية لكن في انعزالها وتفردها (1)

على التاريخ الأدبي أن يستجسب لكل مقتضيات الأصالة إذا أراد أن يصبح علما؛ وهكذا يجب فحص كل المفاهيم من جديد خصوصا مفهوم التاريخ الأدبي الذي يبدو مفهوما ملتبسا، لأنه يقدم نفسه (أو يقدم) بوصفه قابلا للدخول ضمن دائرة ”التاريخ الثقافي” والواقع أن وجهة النظر المتبناة هي التي تحدد نمط الدراسة التاريخية التي تتمفصل إلى اتجاهين رئيسيين هما : دراسة تكون وتشكل الظواهر الأدبية، ثم دراسة التطور الأدبي (2) .

إن دراسة التطور الأدبي عليها أن تقطع صلاتها مع نظريات التخمين الساذجة الناتجة عن غموض في وجهات النظر؛ ذلك أنها تأخذ المعايير الخاصة بنسق ما (على فرض أن كل عصر له نسقه الخاص) لتقيس وتحاكم بها ظواهر نسق آخر مختلف. وبالمقابل يجب النظر إلى ”قيمة” أية ظاهرة أدبية باعتبارها ”دلالة وميزة تطورية”. كما يجب إعادة النظر في مجموعة من المفاهيم التي تفترض حكم القيمة من قبيل ”أدب الجماهير” و ”التقليد”، هذا الأخير الذي لا يؤدي إلا إلى تصور حلقات وهمية لا تقدم سوى مظهر بعيد عن أن يكون الجوهر (3).

وهكذا، ومن أجل حل هذا المشكل، يعتقد تينيانوف أنه لا مناص من الاعتراف بأن العمل الأدبي يحتوي على نسق ، كما أن الأدب بدوره يتضمن نسقا. وبهذا الإجراء والاعتقاد لا يتم إبعاد قضية دور السلسلات غير الأدبية (الأحداث الاجتماعية والسياسية والتحولات الحضارية) في التطور الأدبي، بل على النقيض من ذلك يتم طرحها بشكل حقيقي.

ينطلق تينيانوف، في معرض حديثه عن النسق، من ”فرضية عمل” مفادها أنه من الممكن عزل العناصر الشكلية للعمل الأدبي تجريديا على الأقل، لكن هذه العناصر تدخل في علاقات تفاعل وارتباط متبادل. وفي سياق دراسته للأدب الروسي توصل إلى أن الوظيفة التي يمكن أن يقوم بها عنصر ما يمكن أن تكون وظيفة مستقلة إذا كانت تتعلق بعلاقة مع عناصر من نسقه نفسه، كما يمكن أن تكون وظيفة ترادف وتشابه إذا تعلق الأمر مع عناصر من نسق آخر. علاوة على أن وظيفة العنصر لا تكون دائما واحدة، وهكذا يكون من الخطإ استخلاص عناصر معينة من نسق خاص وربطها بالسلسلات المشابهة لنسق آخر، دون الأخذ بعين الاعتبار وظيفتها البنيوية، ومن جهة أخرى فإن وجود واقعة أدبية بوصفها كذلك يتوقف على سمتها الخلافية، أي على ارتباطها سواء مع السلسلة الأدبية أو خارج الأدبية، أي، بصيغة أخرى، يتوقف على وظيفتها (4) .

ويرى تينيانوف أن المشكل الأكثر صعوبة في دراسة التطور الأدبي، الذي لم ينل حظا وافرا من الدراسة، يتعلق بالاجناس الأدبية. وهكذا فإن الرواية -مثلا- تبدو كما لو أنها جنس أدبي منسجم ومتطور بطريقة مستقلة عبر قرون. والواقع أنها جنس متغير باستمرار، تماما كما أن الأود (القصيدة الغنائية) في السنوات العشرين من القرن التاسع عشر سميت أيضا كذلك في عصر لومونوصوف (Lomonosov) ، لكن استنادا إلى سمات مختلفة. وهكذا فإن >دراسة الأجناس مستحيلة خارج النسق الذي تدخل فيه ومعه في علاقة ارتباط متبادلة، إ ن الرواية التاريخية لتولستوي لا تدخل فقط في علاقة ارتباط مع الرواية التاريخية لزاكوسكين، لكن أيضا مع النثر المعاصر لها < (5)

بيد أن القول بارتباط الظواهر الأدبية لا يسلم من سوء الفهم : إذ من المعتقد -حسب تينيانوفأن العمل الأدبي يأخذ وظيفة خاصة انطلاقا من نسق أدبي سكوني. كمالا يحس بالحرج أولئك الذين يقولون إن النسق السكوني جزء من تطور أبدي، والواقع أن نسق السلسلة الأدبية هو قبل كل شيء نسق وظائف السلسلة ذاتها : >إن التطور الأدبي تماما كتطور السلسلات الثقافية الأخرى، لا يتطابق لا في إيقاعه ولا في طبيعته (نظرا لنوعية المادة التي يستعملها) مع السلسلات المترابطة معه. إن تطور الوظيفة البنيوية يطال بسرعة الوظيفة الأدبية التي تظهر من عصر إلى آخر، كما يطال وظائف كل السلسلة الأدبية، في مقابل السلسلات الأخرى التي تتطلب قرونا (كي تتطور)< (6)

وتطرح قضية أخرى في ما يتعلق بارتباط العمل الأدبي بسلسلة أدبية ما، ذلك أن هذا يساعد على الوقوف على الفارق والمسافة التي تكون بين هذا العمل وبين هذه السلسة/الجنس الذي ينتمي إليه. وبقدر ما يكون هذا الفارق واضحا، بقدر ما يتضح كذلك النسق الذي يتم الابتعاد عنه. ومن جهة أخرى (ومن المنظور العلائقي دائما) فإن >الحياة الاجتماعية تدخل في علاقة ترابط مع الأدب انطلاقا من المظهر الشفهي قبل كل شيء< (7). ذلك أن الأدب له وظيفة شفهية مقارنة مع الحياة الإجتماعية. هذه الوظيفة التي توجهها السلسلة الأدبية (الجنس الأدبي) أو النسق الأدبي ، وليس العمل الأدبي المنفرد والمعزول .

ويبدو أن تينيانوف لا يرتاح كثيرا للدراسات التي تهتم بالمعطيات خارج نصية. ذلك أن >الدراسة المباشرة لسيكولوجية/نفسية المؤلف وإقامة سببية بين وسطه وحياته وطبقته الاجتماعية من جهة وبين أعماله من جهة أخرى هي بوجه خاص منهج غير فعال< (8). ولهذا يعتبر تينيانوف دراسة مشكل ”التأثير” من بين المشاكل المعقدة . ذلك أنه توجد تأثيرات عميقة سواء منها الشخصية أو النفسية أو الاجتماعية، لكنها لا تمتد إلى الأدب. كما توجد أيضا تأثيرات تغير الأعمال الأدبية دون أن تكون لها مع ذلك دلالة تطورية. لكن الحالة الأكثر وضوحا هي تلك التي تبدو فيها المؤشرات الخارجية مؤثرة، لكنه في الواقع لا يحدث شيء من ذلك. وهكذا فإن التطور يعتبر تغيرا في العلاقة بين عناصر النسق أي تغيرا في وظائف العناصر الشكلية، إن التطور بهذا المعنى هو تغير الأنساق.

ويخلص تينيانوف إلى النتيجة التالية” >إن دراسة التطور الأدبي ليس ممكنا إلا حينما نعتبره سلسلة ونسقا مرتبطا مع السلسلات أو الأنساق الأخرى ومشروطا بها. إن البحث يجب أن ينطلق من الوظيفة البنيوية في اتجاه الوظيفة الأدبية. ومن الوظيفة الأدبية في اتجاه الوظيفة الشفهية. كما أن عليه أن يضيء التفاعل ذا الطبيعة التطورية للوظائف والأشكال، إن الدراسة التطورية عليها أن تسير في السلسلة الأدبية في اتجاه السلسلات المترابطة والمجاورة، وليس إلى السلسلات البعيدة جدا على الرغم من كونها أساسية.

إن دراسة التطور الأدبي لا تهمل الدلالة المهيمنة للعوامل الاجتماعية الأساسية، لكن على النقيض لن تضاء هذه الدلالة في كليتها إلا ضمن هذا الإطار. فالاعتماد المباشر على تأثير العوامل الاجتماعية يجعل بين دراسة تغيرات الأعمال الأدبية ودراسة التطور الأدبي رابطا قويا < (9).

وعلى أية حال، قد لا يكون هذا القول الرأي الأخير الذي استقر عليه تينيانوف بصفة نهائية، ما دام يقر أن دراسة قضية الأدب باعتباره سلسلة ونسقا تحتاج إلى مجهودات وأبحاث مستفيضة (10). ومهما كان الأمر، فإن تينيانوف – ومن ورائه الشكلانيون الروس -قد قدم تصورا جديدا للتاريخ الأدبي الذي يعتبره سلسلة من التطورات البنيوية والوظيفية التي تلحق الأدب في ذاته قبل كل شيء: >حينما نتحدث عن التقليد أو التعاقب الأدبي، فإننا نتخيل -بصفة عامة- وجود خط مستقيم يصل خلف فرع أدبي ما بسلفه، ومع ذلك فإن الوضعية هي أكثر تعقيدا. فليس الخط المستقيم هو الذي يستطيل، بل نشاهد عملية انطلاق تنتظم بدءا من نقطة معينة يتم دحضها، إن كل تعاقب أدبي هو قبل كل شيء، معركة، معركة تحطيم كل موجود سلفا وإقامة بناء جديد انطلاقا من عناصر قديمة< (11). وهكذا فإن الشكل الجديد لا يظهر لكي يعبر عن مضمون جديد، ولكن ليحل محل الشكل القديم (12).

وإذا كان هذا الطرح ثورة على التصورات الأكاديمية المألوفة آنئذ، فإنه كما لا يخفى يضمر تصورا جديدا للمؤسسة الأدبية التي تتشكل من أنساق ووظائف تؤثث النصوص الأدبية بوصفها كذلك. بيد أن هذا الطرح يشكل في الحقيقة بداية نهاية التصور الذرائعي النفعي للأدب والنقد معا، وهو ما سيدفع به من جاء بعد الشكلانيين الروس من الباحثين والنقاد إلى حدوده القصوى.

2- ياوس : التاريخ الأدبي باعتباره تاريخا للتلقي.

يقدم هانس روبيرت ياوس في مقاله التأسيسي لنظرية جمالية التلقي الموسوم ”بتاريخ الأدب تحد للنظرية الأدبية” الذي ألقاه على صيغة درس افتتاحي بجامعة كونستانس عام 1967، مشروعا مغايرا لدراسة تاريخ الأدب. وهو مشروع نهض على نقاش مستفيض للدراسات والمناهج التاريخية السابقة، خصوصا الشكلانيين الروس، والمنهج/المدرسة المادية التاريخية الذي تنبني على نظرية الانعكاس. ويذهب ياوس إلى القول إن تاريخ الأدب بصيغته الراهنة قد وقع في مأزق. إذ لم يعد يتمتع بالحظوة نفسها التي كان يتمتع بها من قبل ذلك لأن الطريق الذي سلكه هذا المبحث منذ قرن ونصف هو طريق الانحطاط (13). وفي معرض مناقشته للمدرستين الشكلانية والماركسية بخصوص طروحاتهما حول تاريخ الأدب، يرى أنهما تلتقيان في رفضهما للتجريبية العمياء التي تطبع أعمال التيار الوضعي، ورفضهما كذلك للميتافيزقية الجمالية لتاريخ الفكر من جهة أخرى. كما أنهما سعيا معا إلى حل الإشكال نفسه : كيف يمكن إدراج الواقعة الأدبية المعزولة والعمل الأدبي الذي يبدو مستقلا ظاهريا في السياق التاريخي للأدب؟ ثم كيف يمكن تناولهما بوصفهما شاهدين وحدثين يؤشران على حالة معينة للمجتمع؟ أو باعتبارهما لحظتين ومحطتين من التطور الأدبي؟ إلا أن هاتين المدرستين- كما يرى ياوس- لم تؤديا إلى كتابة تاريخ متميز للأدب ومن ثم إعادة النظر في التاريخ الأدبي التقليدي وسلم القيم التي كان يتبناها، وبالتالي إظهار الأدب العالمي في صيرورته وفي وظيفته التحررية إزاء الفرد والمجتمع (14).

وهكذا يؤاخذ ياوس على المدرسة الماركسية (كما يسميها) اعتمادها على مبدإ الانعكاس، ذلك أن >اختزال الفن إلى مجرد انعكاس بسيط، هو أيضا إلغاء وحد للأثر الذي يحدثه في المعرفة السابقة للأشياء< (15). ويرى مع كارل كوزيك (K.Kosik) أن كل عمل فني يعبر عن الحقيقة، لكنه يتضمن أيضا حقيقة لم توجد قبل العمل نفسه، بل توجد فيه وفيه فقط (16). ومن جهة أخرى يعتقد ياوس أن الجمالية الماركسية إذا أرادت تجاوز هذه المعضلة المتمثلة في عدم التطابق الدائم بين صيرورة الأدب وصيرورة الإنتاج المجتمعي، الذي عبر عنه ماركس نفسه بقوله : >عدم التوازن النسبي بين تقدم الانتاج المادي والانتاج الفني<، هذه المعضلة إذن لن تقوم نظرية الإنعكاس بتجاوزها دون أن تتجاوز ذاتها (17).

أما النظرية الشكلانية، التي تعتمد على مقولة ”التطور الأدبي”، فيعتبرها ياوس أحد عوامل التجديد المهمة بالنسبة لتاريخ الأدب. ذلك أنها حاولت بناء نسق للتطور الأدبي، واقترحت نموذجا معرفيا لأدب متغير باستمرار. بيد أن ما قامت به النظرية الشكلانية لم يسلم من الضعف والنقد. ذلك أن >التعارض الشكلي البسيط، والتنوع الجمالي لا يكفيان لتفسير تطور الأدب. فاتجاه وصيرورة الأشكال الأدبية يبقى إشكالا دون حل. إن التجديد وحده لا يعطي للأدب قيمة جمالية، إذ لا يكفي إنكار العلاقة بين التطور الأدبي والتحول الإجتماعي للإقرار بعدم وجود التجديد] < (18) . وفي السياق ذاته يعتقد ياوس أن >الشكل الجديد لا يظهر فقط ليأخذ مكان الشكل القديم الذي لم تعد له قيمة جمالية، لكنه يستطيع كذلك أن يجعل الإدراك الجديد للأشياء ممكنا، وذلك بتجسيد محتوى للتجربة التي تعبر عن ذاتها عبر الأدب قبل أن تدخل إلى الحقيقة الحياتية< (19).

ويخلص ياوس إلى القول إنه إذا قمنا بتفسير التطور الأدبي بوصفه تعاقبا سرمديا للأنساق من جهة، وقمنا كذلك بتفسير التاريخ العام أو تاريخ العمل الإنساني بوصفه تسلسلا مستمرا لحالات متعاقبة للمجتمع من جهة أخرى، أليس بالإمكان إقامة علاقة بين السلسلة الأدبية والسلسلة غير الأدبية؟ علاقة تحدد الروابط بين التاريخ والأدب دون أن تسلب لهذا الأخير تفرده الجمالي، ودون أن تختزله في وظيفة الانعكاس؟ (20) ويعتبر ياوس هذا التساؤل دعوة للبحث الأدبي من أجل الإضطلاع بدور جديد، وذلك بمحاولة ردم الهوة التي تفصل بين المعرفة التاريخية والمعرفة الجمالية، بين التاريخ والأدب. وهو ما لم تفلح في إنجازه المدرستان الشكلانية والماركسية. يذهب ياوس إلى أن الأدب والفن لا ينتظمان تحت لواء تاريخ منسجم إلا إذا تم التخلي عن المصادرة بارتباط الأعمال الأدبية والفنية بالمبدعين والمنتجين فقط. وذلك بإشراك المستهلكين والمتلقين انطلاقا من علاقة التفاعل بين المؤلف والجمهور (21) بهذا الإعتبار إذا فإن حياة العمل الأدبي في التاريخ لا يمكن إدراكها بمعزل عن المشاركة الفعالة لأولئك الذين وجه إليهم هذا العمل. ومن جهة أخرى يبدو ياوس مقتنعا بصعوبة الحديث عن التاريخ -كما يفعل الوضعيون- باعتباره وصفا ”موضوعيا” لتعاقب الأحداث. ذلك أن هذا الإعتماد لا يعمل على الوصول إلى النوعية التاريخية والطبيعية الجمالية للأدب. إن العمل الأدبي ليس موضوعا موجودا في ذاته، ولا يقدم في كل مرة المظهر ذاته لجميع الدارسين (22).

إنه >من أجل تجديد التاريخ الأدبي، من الضروري تنمية الأحكام المسبقة للموضوعاتية التاريخية وتأسيس الجمالية التقليدية للإنتاج والعرض على جمالية للوقع المنتج والتلقي. إن تاريخية الأدب لا تتمثل في علاقة الإنسجام التي تقام لاحقا بين ”الوقائع الأدبية”، لكنها تنهض على التجربة التي يأخذها القراء من الأعمال الأدبية. هذه العلاقة الجدلية تعتبر المعطى الأول للتاريخ الأدبي، ذلك أن مؤرخ الأدب بدوره عليه أن يكون قارئا قبل أن يتمكن من فهم العمل وتحديده، أي عليه أن يؤسس حكمه الخاص انطلاقا من إدراكه لموقعه ضمن السلسلة التاريخية للقراء المتعاقبين< (23). هذا التاريخ للتلقيات المتعاقبة الذي لا يمكن لمؤرخ الأدب أن ينجح في إقامته إلا حين يتخلص من أحكامه المسبقة التي ينهض عليها فهمه وحكمه على الأعمال الأدبية، يسمح لنا بإقامة جسر بين الأعمال الأدبية الماضية والراهنة، وبين القيم المترسخة بالتقليد وتجربتنا الأدبية الحالية. وبتركيز فإن >تاريخا أدبيا مؤسسا على جمالية التلقي سيفرض في الوقت الذي يستطيع فيه أن يؤدي بصورة إيجابية إلى التجميع المستمر للماضي بواسطة التجربة الجمالية< (24). وهكذا لا يرى ياوس التاريخ التقليدي للأدب سوى تنظيم لماض، وهو بذلك يبدو شبه تاريخ (Pseudo-histoire) ، وليس تاريخا يمكن الإعتداد به. ويقيم ياوس تمييزا حاسما بين الواقعة الأدبية والواقعة السياسية، فعلى النقيض من الواقعة السياسية لا تستوجب الواقعة الأدبية نتائج حتمية (…) إن الأدب بما هو استمرارية من الوقائع المنسجمة لا يتأسس إلا في الوقت الذي يصبح فيه موضوع التجربة الأدبية للمعاصرين والأجيال القادمة من القراء والنقاد والمؤلفين انطلاقا من أفق انتظارهم الخاص. إنه لا يمكن إذا فهم وكتابة تاريخ الأدب في طبيعته النوعية إلا حينما يكون ممكنا كذلك الإقرار موضوعيا بأفق الانتظار هذا<(25). ومفهوم أفق الانتظار يشكل عصب النظرية الياوسية، فهو يقر أن العمل الأدبي عقب ظهوره لا يقدم نفسه باعتباره جديدا جدة مطلقة وآتيا من فراغ. فعبر مجموعة من المؤشرات والخصائص والإحالات يتهيأ الجمهور المتلقي لنمط خاص من التلقي والقراءة (26). إلا أن هذا الأفق يتغير باستمرار، ويجب أخذ هذا التغير بعين الاعتبار، وذلك لجعل الوقع الذي يحدثه العمل الأدبي أساسا لتاريخ أدبي للقراء (27). ولكي يتم تقديم تاريخ الأدب بوصفه ”تطورا أدبيا” وكذلك لكي يتم إدراك التعارضات الشكلية أو ” السمات الخلافية” في صيرورتها التاريخية ، فإنه لا بد لجدل الإنتاج والتلقي الجماليين من الاستمرار في تعاقب زمني حتى يصل إلى اللحظة التي يكتب فيها المؤرخ هذا التاريخ (28). ويقترح ياوس النظر إلى تاريخية الأدب انطلاقا من ثلاثة منظورات :

– المنظور التعاقبي، أي النظر إلى تلقي الأعمال الأدبية عبر الزمن.

– المنظور السكوني، ويتم التركيز ضمنه على نسق الأدب في فترة زمنية محددة.

– أما المنظور الثالث، فتبحث من خلاله وتتقصى العلاقة بين التطور الذاتي للأدب وتطور التاريخ العام (29).

وبخصوص المنظور الأول فإن >جمالية التلقي لا تسمح فقط بفهم معنى العمل الأدبي وشكله بالطريقة التي فهما به بصفة تطورية؛ إنها تسمح أيضا برد كل عمل أدبي إلى ” السلسلة الأدبية” التي صدر عنها، وذلك قصد تحديد وضعيته التاريخية ودوره وأهميته ضمن السياق العام للتجربة الأدبية. وإنه بالمرور من تاريخ تلقي الأعمال الأدبية] إلى التاريخ الوقائعي للأدب، نكتشف هذا الأخير باعتباره مسلسلا يفتح فيه التلقي السبيل للقارئ والناقد على التلقي الإيجابي للمؤلف وعلى إنتاج جديد. وبتعبير آخر باعتباره مسلسلا يستطيع فيه العمل (الأدبي) حل الإشكالات الأخلاقية والشكلية التي تركها العمل السابق دون حل] ويطرح بدوره إشكالات جديدة< (30). وهنا تطرح مقولة ”الجدة” التي ليست مجرد مقولة جمالية حسب اعتقاد ياوس، بل هي أيضا مقولة تاريخية. وتبرز بوصفها كذلك حينما يسعى التحليل التعاقبي (الدياكروني) للأدب إلى البحث عن العوامل التاريخية التي تقف وراء جدة ظاهرة أدبية ما، وكذلك عن المقياس الذي يؤدي إلى إدراك هذه الجدة في الزمن الذي ظهرت فيه، وعن التراجع والتقدم والانعطاف للفهم الذي لحق تمثل واستيعاب هذه الجدة، ثم أخيرا عن مدى ممارسة هذه الجدة لوقع قوى لتغيير المنظورات التي يتم تكوينها عن الأعمال الأدبية اللاحقة، ومن ثم القيم الخاصة للماضي الأدبي (31).

أما المنظور السكوني، فيلحظ ياوس بصدده أن النتائج التي يتم التوصل إليها بفضل التنظيم المنهجي للتحليلين السكوني والتعاقبي تدفع إلى تجاوز الدراسة التعاقبية السطحية في ميدان التاريخ الأدبي، والتي لا زالت تمارس إلى الان. وبالتركيز على التغيرات التي تلخق التجربة الجمالية يفهم الترابط البنيوي الوثيق بين استيعاب الأعمال الأدبية الجديدة وتلك القديمة جدا. وفضلا عن هذا يجب دراسة مظاهر التطور الأدبي لاستكناه تجانس الأعمال المتزامنة واكتشاف النسق الكلي والشامل لأدب فترة من التاريخ. وبهذا يمكن الوصول إلى صياغة منهج جديد للتاريخ الأدبي، وذلك بتأمل ودراسة مقاطع سكونية متعددة، من أجل الانتهاء في الأخير إلى رصد التمفصلات والتحولات التاريخية من عصر أدبي إلى آخر (32)، ومن الواضح أن ياوس يدمج سلسلتي التزامن والتعاقب، فتاريخية الأدب تظهر أساسا في التقاطع بين السكوني والتطوري. ولا غرو فالأدب نفسه يستدعي هذه الثنائية؛ فهو من جهة يتضمن نسقا من العناصر الثابتة نسبيا كالأجناس وطرائق التعبير والأساليب … وكل هذه العناصر تدخل في علاقات تقابل مع العناصر الأكثر تغيرا كالموضوعات (أو التيمات) الأدبية والرموز والاستعارات (33).

إن منهج تاريخ الأدب حينما يسير في هذا المنحى، وهو يريد دراسة التطور الأدبي، فليس من الضروري أن يتتبع تعاقب شبكة الوقائع الأدبية وما يتفرع عنها، بل قد يكتفي فقط برصد كيفية تغير النسق السكوني لأدب ما. وبصيغة أخرى، فإنه يمكن تقديم الأدب كتعاقب أنساق معينة في التاريخ، وذلك بتنظيم الدراسة السكونية والتعاقبية. بيد أن البعد التاريخي للأدب لن يدرك جيدا إلا إذا اكتشف المؤرخ نقط الانفصال والاتصال بين الأعمال الأدبية التي تسمح بمفصلة مسلسل ”التطور الأدبي” بطريقة ملائمة، وبتمييز لحظاته القوية وتوقعاته الحاسمة، إلا أن هذه المفصلة للتاريخ الأدبي لن يتم ضبطها بالإحصاء ولا بالذاتية العشوائية للمؤرخ، بل الأساس هنا هو الوقع التاريخي للأعمال الأدبية وتاريخ تلقيها. وهذا ما سيشكل في نظر الباحث الملاحظ المعاصر الاستمرارية العضوية التي ينتج عنها مظهر الأدب الراهن (34).

أما علاقة التاريخ الأدبي بالتاريخ العام، فإن ياوس يذهب إلى القول >إن التاريخ الأدبي لن يستكمل مهمته إلا حينما يتم عرض الإنتاج الأدبي ليس فقط بطريقة سكونية أو تعاقبية انطلاقا من استمرار الأنساق التي تشكل هذا الإنتاج، لكن أيضا إذا تم النظر إليه (أي الإنتاج) بوصفه تاريخا متميزا في علاقته النوعية مع التاريخ العام. هذه العلاقة لا تنحصر فقط في إمكانية اكتشاف في أدب كل العصور صورة نموذجية ومؤمثلة، ساقطة أو طوباوية للوجود الإجتماعي. إن الوظيفة الاجتماعة للأدب لا تتجلى في اتساع مدى إمكانياته المتحققة إلا حينما تدخل التجربة الأدبية للقارئ أفق انتظار حياته اليومية وتوجه أو تغير رؤيته للعالم، وبالتالي تؤثر على سلوكه الاجتماعي< (47). وهكذا يرى ياوس أن القطيعة التي توجد بين الأدب والتاريخ من جهة، وبين المعرفة الجمالية والمعرفية التاريخية من جهة أخرى، يمكن أن تنتفي إذا توقف تاريخ الأدب عن تكرار مسار التاريخ العام بالطريقة التي ينعكس بها في الأعمال الأدبية.

إن ياوس، على ما يبدو، قد رصد مهمة جديدة للتاريخ الأدبي ولمؤرخ الأدب، هذا الأخير الذي عليه أن يكف عن التهرب من التاريخ وأسئلته العميقة والصعبة التي تواجه دائما الدراسة التاريخية للأدب . ولقد انبرى الدارسون والمؤرخون بالفعل للتأمل من جديد في الإشكالات المعقدة التي يطرحها البعد التاريخي للأدب باستمرار (35)، في محاولة للرد على تحدي التاريخ والأدب معا.

—————————-

هوامش

1- “De L’évolution Littéraire”, in Théorie de la littérature, Textes desformalistes russes, Réunis, présentés et traduits par Tzvetan Todorov, Préface de Roman Jakabson, collection “Tel quel” aux édition du seuil, paris, 1965; p : 120

2- Ibid, P : 121

3- Ibid, PP : 121 -122

4- Ibid, PP : 123-124

5-Ibid, P : 128

6- Ibid, P : 130

7- ibid p 131

8- Ibid, P : 134

9- Ibid, PP : 136 -137

10- Ibid, P :130

11- نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة ابراهيم الخطيب، الرباط-بيروت، الشركة المغربية للناشرين المتحدين ومؤسسة الأبحاث العربية، ط 1، 1982، ص : 63 وجدير بالإشارة إلى أن مقال تينيانوف ”حول التطور الأدبي” لم يرد ضمن هذا الكتاب.

12- المرجع نفسه ، ص : 60

13- Jauss, Hans Robert: Pour une esthétique de la reception, Traduit de L’allemand par Claude Maillard, Préface de Jean starobinski, Paris, Gallimard, 1978, p : 21

14- Ibid, P 31

15- Ibid, P: 38

16-Ibid

17- Ibid, P : 65

18-Ibid,P: 76

19-Ibid,P.43

20- p 39 Ibid,

21- Ibid,P: 47

22- Ibid,pp 46 – 47

23- Ibid,p: 46

34- Ibid,p p : 72 – 73 Ibid, p: 72

35- Hénri Béhar, Rager Fayolle et autre: L’histoire Littéraire aujourdh’ui, Paris, Armand Colin, 1990