محمد الوالي
كلية الآداب – مكناس
يبدو مصطلح “البلاغة” مألوفا لا يستدعي دراسة وتوضيحــا . ومع ذلك فإن الأمــور ليست بهذه البساطـــة الخادعــة . فكما انتقل هذا المصطلح من الدلالة على الخطاب الذي يتوخى إبلاغ فكرة ما وإقنــاع المتلقي بضرورة تبنيهــا ثم التصرف بعد ذلـك تبعــا لتعليماتهــا وذلك قصد تغيير حال ما أو تثبيته – ويترادف هذا المفهوم أو المصطلح بهذا المعنى مع مفهــوم “الخطابة” التي “هي بمعناها العام متواليــة كلامية تقوم في علاقتهــا مع وضع قائــم بقصد تغييره-” (1) إلى الدلالة على الخطاب الذي يتوخى إثارة المتعــة أو اللذة الجمالية عند المتلقي بغض النظر عن الفكرة أو الإبلاغ أو تغيير المقام أو الحال . البلاغيــة تترادف في هذه الحال مع الأسلوبيــة أو الشعريــة أو الأدبيــة أو الجماليــة أو اللعبيــة … إلخ . وإذا كانت ـ” البلاغة” بمعناها الأول تترادف مع الحجاج المتوخي للإقناع فالفصل أو الكبح عن الفعل ، فإن البلاغة بمعناها الثاني تترادف مع التخييل الشعري بما يعنيــه ذلك من نقل الكلمات من مجرد دلائل على معان وعلامات عليهــا إلى جعلها مقصودة في ذلك لكي تصبح “أشيــاء” وكائنــات من لحم ودم .وفي ضوء هذا المعنى نفهــم قول سارتــر:”الشعــــــــــراء هم أنـــاس يمتنعـــون عن اعتبــــار اللغـــة مجـــرد وسيـــلة …] الشاعـــــر نفض يــده دفعــة واحــدة من اللغــة – الأداة ؛ واختـــار اختيارا نهائيــا الموقف الشعري الذي يعتبـــر الكلمــات أشيــاء لا مجــرد دلائــل .” (2)
ويعبــر ياكبسون عن نفس هذا المعنى بقولــه :”إن استهداف الرســالة بوصفهــارسالة والتركيــز عليهــا لحسابهــا الخاص هــو ما يطبــع الوظيفــة الشعريــة للغــة .” (3)
وهذا الموقف الذي يمكن نعته بالشكلاني أو المحايث أو الداخلي يكاد يحتل خريطــة النقد المعاصــر احتلالا كليا . بدءا من الشكلانيين الروس إلى البنيوييــن مرورا بالمدرســـة التشيكيـــة والنقد الجديد الأمريكي . ويكاد يتفق هؤلاء جميعــا على اعتبــار الشعــر يجد غايتــه في ذاتــه متنكــرا لمحاولات تطويعــه لمحاكـاة العالم . ومن هنــا يصبــح الشعــر خطابـــا ثاخنــا لا يسمــح برؤيــة ما يوجد وراءه شأنــه شأن الزجاجة المزخرفة التي تلفت نظرنــا بالرسوم الملتصقــة عليهـــا . وهذا ما يكسب الخطاب وجودا ملموســا لا يتمتــع به في الخطاب النثري .
ففي النثر لا تمثل الألفــاظ أي وزن ، إذ المهم هــو الأفكــار . ولهذا يقارن النثر بزجاج شفاف . فنحن حينما نتأمل الأشياء وراءه لا نكاد ننتبه إلى وجــود هذه الزجاجة . كذلك الأمــر في النثر . فبعد التمكن من الكلام النثري لا نستحضر الألفاظ ، وكل ما يتعلق بها ولكننا نستحضر الأفكــار أمــا الأفعـال فتندرج في عداد الأشيــاء المتلاشيــة . الخطاب هنــا لا وجود له إذن (4) “إن معيار اللغة اليوميــة الذي هو التواصل والاقتصاد هو إمحاء المادة الصوتية لصالح الدلالة” (5) وعلى ضوء هذا التصور يمكن أن نفهم أيضا قول ارشيبالد ماكليش :
لا ينبغـي للشعــــــر أن يـــــــــدل
بل ينبغـــــي أن يكـــــــــــــــون (6)
وهذا يعني أن الشعر ينبغي له لكي يكون شعرا حقا أن يتجاهل الإحالة على أشياء العالم الخارجي أو التعبيــر عن ذات ما أو التوجــه إلى المتلقي توجها خطابيــا وحجاجيــا أو بسط الأفكــار على سبيل البرهــان أو الاستدلال . بعبارة مختصرة : إن غاية الشعــر في هذا التصور غاية ذاتيــة أو جماليــة أو لعبيــة أو أسلوبيــة وحسب . وبقدر ما يتنكــر الشعــر لهذا القصد الذاتي بقدر ما تنقص قيمته الجمالية . والإمعــان في تجاهل هذه الغايــة الجمالية يفقد الشعــر خاصيتــه الجوهريـة ويكف أن يكــون شعــرا . ومع ذلك ينبغي أن نعين ، بعيدا عن الإقرارات المجردة ، الأدوات التي تنقل الكلام من حال النثريــة إلى الحالة الشعريــة .
لا شك أن آراء علماء الشعريــة متضاربــة بهذا الشأن . إن عالما مثل ياكبسون يرجع الملامح الشعريــة إلــى أساس واحــد وهو التكرار سواء كان هذا التكرار كميا أي قائمــا على تماثل عدد مقاطع الأبيــات االشعريــة أم تفعيليــا قائمــا على أســاس تماثل عدد التفاعيل أم لفظيــا قائمــا على تماثل كلي أم جزئي لألفاظ ومركبــات المتواليــة الشعريــة . وهذاهو ما يقصد إليــه ياكبسون في قولته الشهيــرة التي يقول فيها “إن الوظيفـة الشعريــة تسقط مبدأ المماثلــة من محور الاختيار على محور التأليــف .” (7)
ويمكن لهذا التكرار أن يكــون مفرطا كمــا نلاحظ في بيت للاعشى:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني شاو مشل شلوش شلشل شول
فتطل المتواليــة اللغويــة على الكلام العديم المعنى أي على متواليــة سديميــة لا تتميــز فيهــا الكلمــات . ويمكــن أن يخف هــذا التكرار خصوصا حينما يستند إلى تماثل المركبــات مثل قول درويش :
وطني ليس حقيبــة
وأنــا لســــــت مسافــــــــــر (8)
أو قول محمـــــــد الماغـــــــوط .
هي تحب الأرائــك الطويلـــــــــة
وأنــا أحب السفـن الطويلـــــة(9)
ويذهب نقاد آخرون إلى تحويــل مواطن التشديد فيجدون الشعريــة في جانب المدلول لا الدال كما رأينــا عند ياكبسون فالمدلول الشعري عند هؤلاء يقوم على المجــاز أو الانزيــاح حيث ننتقل من معنى إلى معنى المعنى . أو بعبارة الطف إننا نجد الشعريــة تتحقق هنــا بفضل العبارات التصويرية التشبيهيه والاستعاريــة والتمثيلية والرمزيــة والكنائيــة . ولعل فرانسوا مورو هو أحــد من يمثل هذا الإتجــاه في صيغتــه الأوضــح والأبســط . وينزع كوهن هذا المنزع مقتفيــا أثــر . أدانــك الذي يعرف الشعر بوصفــه استعارة ثابتــة ومعممة” (10) . بل إن كوهن يضع كشرط مطلق لتحقيق الشعريــة تغيير المعنى . وحتى الجناس يظل حلية جوفاء إذا لم ينتج عنها تغيير معنوي أي إذا لم تنتج عنه استعارة . ألم يقل في التعليق على قول بودلير :
Mon enfant, ma soeur
Songe à la douceur
“نتوفــر في هذين البيتين لبودلير على كلمتين في القافيــة لا يربط بينهمــا أي جامع دلالي . فالنعومــةdouceur صفة للنفس في حين أن الأخت soeur عضو في العائلــة . لا يوجــد إذن بين المفهوميــن أي تلازم مشترك . والتشابــه الصوتي بينهمــا هو مجرد عرض في اللغة احتالت القافيــة لإبرازه . إلا أن الحقيقة العاطفيــة تأتي هنــا أيضــا ، لأجل تصحيح الخطإ المفهومي . فإذا كانت الإخوة( Sororité) توحي بقيمــة ، يشعــر بهــا كذلك ، هي قيمــة الحميميــة والود ، فالأكيــد أن كل أخت هي عذبــة ، وضمنيا فإن كل عذوبــة هي بالمقابــل أخويــة . إن دلاليــة القافيــة استعاريــة . فالمشابهــة الصوتيــة تؤدي نفس الدور الذي تؤديــه العلاقــة الإسناديــة . ولهذا أمكن الحديث عن منافرة القافيــة التي تقتضي نفس الاختزال .
…] إن الصعوبــة الاستثنائيــة لمثل هذه القافيـــة ممكنــة القيــاس. إذ ينبغي أن تستجيب لمقتضيات ثلاثــة هي أن يضاف 1إلى المشابهــة الصوتيــة 2 اختلاف في دلالـة المطابقــة 3وتعويض هذا الاختلاف بالدلالــة المحققة للانسجــام .(11)
والواقع أن هذا أوســع معنى يمكن أن ينسب إلى مفهــوم الاستعارة إذ كنــا وما نزال نظن أن حليــة مثل القافيــة لا علاقــة لهــا بالانزياحــات الاستعاريــة في حيــن إننا نجدهــا مدرجــة ضمنهــا هنــا . والأخطــر من هذا أن هذه الاستعارة تقوم على الانتقال من المعنى المفهومي إلى المعنى الإيحائــي أو الوجدانــي . ولكــن على أي أســاس نلنمــس هذا المعنى الوجداني بين ألفاظ لا نعرف من معانيهــا إلا الوضعيــة أو المعجميــة . إن هنــاك إمكانيــة فتح الباب أمــام الأحكــام الانطباعيــة .
وفي كل الأحــوال فإن الاتجــاه اللفظي الأول نفسه ينفي عن الاستعاريــة أو التصويريــة أية أهميــة وبالخصوص في مرحلــة الشكلانيــة الروسيــة الناشئــة .
ومع ذلك إذا حاولنــا التوفيق بين الاتجاهيــن فإننــا قد نقول مع جماعة لييج أن الشعريــة تتحقق على أربــعة مستويات . إثنــان منهمــا لفظيان يقومــان على التكرار سواء أكــان في الأصوات والكلمــات أم كان في المركبــات وإثنــان منهمــا دلاليــان منطقيان يقوم على نفي التكرار أو على تكسير المتناظرة الدلاليــة أو المنطقيــة (12) .
الخطــاب الشعــــري الخطاب العلمي النثري]
التناظر التشكيلي + ــــ
التناظر التركيبـي + ــــ
التناظر الدلالــــــي ـــ +
التناظـر المنطقـــي ـــ +
ويكاد هذا الجدول يترجــم حرفيــا اقتراح البلاغــة التقليدية تقسيم المحسنات البلاغـية إلى محسنات الألفــاظ ومحسنــات التراكيب ومحسنات المعاني ومحسنات الأفكــار .(13)
والآن يمكن التأكيد أن علم البيان العربي يعادل في البلاغة العربية محسنات المعنى ومحسنات الأفكــار . وهذا يتطلب منا الإشارة إلى أن الحدود بين هذين النمطين من الصور ليست واضحــة دائمــا . في هذه الحدود يمكن أن نخطو خطوة أخـرى . إن المقومــات التي نريد أن نجعلهــا موضــوع حديثنــا هي المقومــات البيانيــة .
لا يبدو أننا نستطيع أن نعثر على تعريف أشمــل وأدق للبيان من التعريف الذي يقدمه عبد القاهر الجرجاني حينما يقول :
الكلام على ضربين . ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده وذلك إذا قصدت أن تخبــر عن زيد مثلا بالخروج على الحقيقة فقلت <<خرج زيد>> …] وضرب آخــر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ثم تجــد لذلك المعنى دلالة ثانيــة تصل بها إلى الغرض. ومدار الأمــر على الكناية والاستعارة والتمثيل …] ههنا عبارة مختصرة وهي أن تقول : المعنى ومعنى المعنى تعني بالمعنى المفهوم من ظاهــر اللفظ والذي تصل إليــه بغيــر واسطــة وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخــر …] وإذ قد عرفت ذلك ، فإن رأيتهم يجعلون الألفاظ زينة لمعاني وحليه عليها ، أو يجعلون المعاني كالجواري والألفاظ كالمعارض لها ، وكالوشي المحبر واللباس الفاخــر والكسوة الرائعــة إلى أشبــاه ذلك ممــا يفهمون به أمــر اللفـظ ، ويجعلون المعنى ينبل به ويشـــرف فاعلــم أنهم يصفـــــون كلاما قد أعطاك المتكلــم أغراضــه فيه عن طريق معنى المعنى فكني وعرض ومثل واستعار.(14)
يطرح هذا النص أفكارا بالغــة الأهميــة لتحديد نوعين من الدلائــل، بل نوعين من الخطاب . في الأول “تصل منه الغرض بدلالة اللفظ وحده” حيث يكون للفظ ما في سياق عيني معنى واحد . وهذه الطريقة في العبارة يصفها المعاصرون بكونها تعيينية denotative. وهي تميزالخطاب النثري اليومي أو العلمي . والعلاقة بين اللفظ والمعنى هنا مباشرة . إذ لا شيء يتوسطهــا . وفي الثاني تجد معنى اللفظ يحيل على معنى ثان وأشكال هذه الدلالة الثانوية هي الكناية والاستعارة والتمثيل . وتجتمع كلها تحت تسمية معنى المعنى وبفضل هذه الإحالة الثانوية أو الإضافية يتزين المعنى ويوشي وينفخم ويكتسب نبلا . فإذا كانت العبارة الآتيــة :
وتركك في الدنيا دويا كأنما تداول سمع المرء انمله العشــر
شعرية ونبيلة فذلك عائد لتزيين معنى الأثــر أو الذكر أو الصيت أو السمعة بمعنى الدوي .
وكذلك الأمر بالنسبة لقول الشاعر وهو يتحدث عن الحرية :
قبلتني واختفت في الزحــــام
نجد المعنى هو اختفاء الحرية المطلوبة في حين أن التقبيل والاختفاء في الزحــام هو معنى جيء به لتزين والزخرفة والتفخيم والكساء الرائــع وهكذا فإن إحالة اللفظ النثري هي إحالة للفظ على معنى . في حين أن إحالة اللفظ الشعري يلحق بالإحالة السابقــة أي إحالة لفظ على معنى إحالة إضافية هي إحالة معنى هذا اللفظ على معنى آخــر .
إن الجرجاني يعود في مكان آخــر في دلائل الإعجــاز ليطرح نفس الفكرة بصبغـة يحسده عليها كثير من المعاصرين ، وهو يميز هنا مرة أخرى بين الخطاب النثري والخطاب الشعري ، متذرعــا بمصطلحات جديدة . يقول : “إن المفسر يكون له دلالتان : دلالة اللفظ على المعنى ، ودلالة المعنى الذي دل اللفظ عليه على معنى لفظ آخــر ، ولا يكون للتفسير إلا دلالة واحدة ، وهي دلالة اللفظ ، وهذا الفرق هــو سبب إن كان للمفسر الفضل والمزية على التفسير .”(15)
هناك إشارة دائمــا إلى نوعين من الخطاب خطاب يدل على معنى أي أحادي المعنى أي تفسير ، وخطاب يدل معناه على معنى المعنى أي متعدد المعاني أي مفسر . ولا يقتصر الجرجاني على هذا التمييز بل أنــه يؤكد إن التفسيرparaphrase عديم القيمـة الشعرية في حين أن المفسر هو الذي يختص بالقيمة الجمالية إذ هنــا يقدم المعنى مزينــا ومفخمــا وموشي . المسألة هي هنــا دائمـا دلالة اللفظ على المعنى المتطابقة مع النثر . ومسألــة دلالة معنى اللفظ على معنى المعنى المتطابقة مع الشعــر ، أو بالأحــرى الكلام الشعري . بل إن الجرجاني يعود في نص آخــر بالغ الأهميــة وبعد أن ميز في الكلمـة بين اللفظ والمعنى كمكونين أساسيين في الاستعمال النثري . وميز في الكلمة الشعرية مستوى ثانيا مضافا إلى اللفظ والمعنى وهو إحالة المعنى على معنى المعنى ، يعود لكي يميز إحالة اللفظ على اللفظ وإحالة هذا اللفظ على المعنى . ويقدم هنا مثال الشرجب كلفظ يحيل على لفظ آخــر هو الطويــل يحيل على معنى الطويــل . أو بعبارة أخــرى ، إذا كنا هنا أمــام شكل من الترادف ، أي أمــام ظاهرة استبدال لفظ بلفظ آخــر بنفس المعنى ، فإننــا في حال المجاز نجد قشرة لفظيــة واحــدة مقابل طبقتين معنويتين. تمكــن صياغة هاتين الصيرورتين بالكيفية التاليــة :
لفــــظ : الشرجب لفـــظ : الأســــد
1-الشرجب لفــــظ : الطويـــل 2-الأسـد معنى : الأســــد
معنـى : الطويــل معنى : الشجـاع
في الحالة الأولــى نكون حسب عبد القاهــر أمــام استعمال عادي للغة ، وفي الحالة الثانيــة أمــام استعمال شعري لهــا .
وعلى الرغــم مما يذهب إليه عبد القاهــر هنــا ، فإننــا نجد بلاغيين آخرين يميزون بين نوعين من الاستبدال . ينصب الأول على اللفظ . وهنــاك نلتقي بكل المحسنــــات اللفظيـــة . أو ما تسميه البلاغــة الغربيــــة محسنـــات لفظية figures de diction وتسميه جماعة لييج بدائل تشكيلية metaplasme وينصب الثاني على المعنى وهنــا نلتقي بكل أشكال المجاز أومحسنات معنويـة figures de sens . وشاعت في البلاغــة الغربيــة التقليـديه تسميــه محسنــات الكلمات f.de mots وهي تسمية مضللة ويطلق عليها أوليفيي روبول تسمية محسنات المعنى وتقترح جماعة لييج لهذا النوع تسمية بدائل معنميــة métasémemes . ويصوغ أصحاب “بلاغة عامة” شكليا هذين النوعيــن من الاستبدال .
<<حمارة>> <<أتان>> <<شراع>>
/ حمارة / / سفينة / / شراع /
في الحالة الاولى قد نستعمل “أتــان” بدل “حمارة” للدلالة على /حمارة” وهذا استبدال ترادفي . في الحالة الثانيـة نستعمل لفظ “شراع” الدال على معنى /شراع/ باستبدال هذا المعنى بمعنى آخــر هو /سفينة/ على سبيل المجاز . إن البدائل اللفظيــة التي قد تنتج عنها مقومات شعرية لفظيــة لا ترقى في رأي عبد القاهر الجرجاني وفي رأي جماعة لييج إلى المكانة التي يحتلها المجاز أو الاستعارة . تقول جماعة مـــو :
نحن في غنى عن الإلحاح كثيرا عن الدور الجوهري الذي تلعبــه البدائــل المعنمية في التعبير الأدبي . بإمكاننا أن نثمن حقا محاسن الجناس إلا أننا قد نكون مبالغيــن إذا قلنا أنه يحتل مكانة حاسمــة في الآداب العالميــة . وعلى العكس من ذلك فمن الصعب جدا تصور كتابة شعريــة تستغني عن الاستعارة .(18)
ويقول عبد القاهــر :
فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحســن شعرا أو يستجيد نثرا ، ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ فيقـول : حلو رشيق وحسن أنيق ، وعذب سائغ وخلوب رائع ، فاعلم إن ليــس ينبؤك عن أحوال ترجـــع إلــى أجــراس الحروف وإلـى ظاهــر الوضع اللغوي بـل إلى أمــر يقع من المـرء فـي فــؤاده وفصل يقتدحــه العقل من زناده .(19)
إننا نرى في هذين النصين نفس التأكيد على الإعلاء من شأن المجاز عموما والحط من قيمة الصور اللفظيــة . بل إن الجرجاني يذهب إلى أبعد من هذا حينما يضبط هذه العلاقــة القائمــة بين المعنيين في العبارة المستخدمة استخدامــا مجازيا . أو بعبارة أخرى إن الجرجاني بعد أن شدد على الانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثاني ، ينتقل لكي يخصص نوعا بعينه من التجورالدلالي الملتصق على ظهر المتناظرة الدلالية التي يعتبرها غرض الكلام أو الفكرة التي يراد توصيلهــا والقصد إليها . وهذا الغرض أو القصد لا دور له في نقل الكلام من مستوى النثرية إلى مستوى الشعريــة . إن الأغراض نثرية . وذلك التجوز الذي يخرق الغرض فهو الذي يرفع حقا من مكانة الكلام فيجعله شعرا . يقول عبد القاهر :
اعلم أن الشاعرين إذا اتفقا لم يخل ذلك من أن يكون في الغرض على الجملة والعموم أو في وجه الدلالة على ذلك الغرض . والاشتراك في الغرض على العموم أن يقصد كل واحد منهما وصف ممدوحه بالشجاعة والسخاء أو حسن الوجــه والبهاء أو وصف فرسه بالسرعــة أو ما جرى هــذا المجرى وإما وجه الدلالة على الغرض فهو يذكـر ما يستدل به على إثباته له الشجاعة والسخاء مثلا . وذلك ينقسم أقساما منها التشبيه بما يوجد هذا الوصف فيه على الوجه البليغ والغاية البعيدة كالتشبيه بالـأسد وبالبحر في البأس والجود وبالبدر والشمس في الحسن والبهاء والإنارة والإشراق ومنها ذكر هيئات تدل على الصفة من حيث كانت لا تكون إلا فيمن له الصفة ، كوصف الرجل في حال الحرب بالابتسام وسكون الجوارح وقلة الفكر كقوله :
كأن دنانيرا على قسماتهـــــم وإن كان قد شف الوجوه لقــاء(20).
ويمكن تبسيط هذا بالقول إن الغرض هنــا معناه الفكرة التي يـــراد توصيلهــا إلى المتلقى . إنــه موضوع الخطاب المجرد من كل الحليات الأسلوبيــة أوالبلاغيــة . أو هو الفكرة الغفل النثريــة . إن الأمــر يتعلق بما يسميه إ.أ . ريتشاردز الحمولةTeneur الذي يقابل الأداة véhicule وهي تترادف مع ما يسميه صاحب الأسرار وجه الدلالة على الغرض ، وكلاهما يعني الحليات البيانية من تشبيه واستعارة وكناية ، وهذان المصطلحان يشيران إلى البنيات البيانية الإضافيــة أو الزائدة التي تكسب الأغراض صفة الشعريــة وبدونها تظل نثريـة. ووجه الدلالة على الأغراض يتفرع إلى فئتين تقوم الأولى على صور المشابهــة وهي التشبيه والاستعارة وعلى صور المجاورة وهي المجاز المرسل والكناية . فحينما يقول الشاعــر :
أســـد علي وفي الحروب نعامـــة
فإن الغرض هو جسارة المخاطب إزاء المتحدث في هذا البيت وجبنه في الحروب . وهذه الفكرة مجردة من هذا التشبيه تظل نثريــة . إما إضافة هذين التشبيهين أســد ونعمامة فهو إلباس الفكرة الغفل بوجــه الدلالة على الغرض أو الأداة . وبذلك الأمــر أصبحنــا أمــام قول شعري .
وكما تضاف صورة المشابهــة إلى المعنى الغفل يمكن أن تضاف صورة المجاورة الكنائيــة إليهــا كما يتضح في البيت الآنف الذكــر إذ أن الفكــرة الغفل أو الغرض أو الحمولة هي :
هم شجعان والآخرون خائفــون
وهذه الفكرة المعروضة بهذه الكيفية تظل نثرية ولم تخرج من هذا الإطــار إلا بإضافــة هاتين الكنايتين . وهما تلألؤ وجوه وشحوب أخــرى ، إلا أنـه ينبغي أن نشير إلى أن العبارة كــان دنانيــرا على قسماتهــم يحمل وجه دلالة على الغرض مركبــا إذ هنــاك استعارة الدنانير لإشراف القسمات ، وبعد ذلك هنــاك الكناية عن السرور والشجاعة والاطمئنان بإشراق الوجــه . ويمكن أن نصوغ هذا شكليا بالكيفية الآتيــة :
الأغراض وجه الدلالة على الأغراض التشبيه
(نثريـــة) والإستعارة والكناية العامية (نثريـــة)
المعاني
وجه الدلالة
على الأغراض
وجــه الدلالة على الأغراض
التشبيه والاستعارة والكناية الخاصيـة
(شعريــة)
ينبغي التوضيح هنــا أن وجــه الدلالة مستويــان الأول عامي شائع وعرفي كتشبيه الغادة الجميلة بالبدر وهذا نثري داخل في الأغراض. والثاني خاصي وفريد وجديد من قبيل هذا القول للماغوط :
صدورنــا غبراء كساحات الأعــدام
وهنا في هذا المستوى الثاني نلتقي بالشعريــة خالصــة في تصور الجرجاني ، وينبغي التوضيح أيضــا أن هناك من ينفي عن صور المجاورة امتياز الشعريــة ويقصرهــا على صور المشابهــة . ولأمــر ما يقول أحدهــم “إن هذه المجازات أي المجاز المرسل والكناية] تقوم على علاقات جاهزة سلفا ، وهي لا تطلب مجهودا من الشاعر لكي يبدعها ولا من المتلقي لأجل تأويلهــا .” (21) وهمــا لا يسمحان أبدا بالكشف عن خيال يقـود إلى الكشف عن العلاقات الخفية . وبقدر ما تفرض أفكــار الإبداع والفرادة يتم التخلي عنها لصالح الاستعارة التي تصبح شيئا فشيئا المجاز – السلطان” (22) . <<إن التشبيهات والاستعارات والرموز أي كل ما كان في التراث الكلاسيكي الجديد مجرد محسنات تنفلت الآن من بين يدي البلاغة لكي تصبح صورة . إن وعي الشعراء يتفق مع تفكير النقاد . فمن يتحدث اليوم ، حينما يتعلق الأمــر بالشعــر ، عن الكناية والمجاز المرسل أو مجــاز العلميــة >> (23)
يتضح من هذه القولة أن مولينووتامين يميزان بين جنسين من المحسنات أولهما يقوم على المجاورة وهو الكناية بمفهوم مغاير للبلاغة الغربية] ومن الأمثلــة على هذا قول الشاعر المعري صلاح جاهيــن :
نــاس بتعرق على الرغيـــــــــــــف
ونــاس يتعرق على التنـــــــــــــس
المقصود هنــا بالعرف هنــا هو التعب والجهد والأول مجرد نتيجــة للثاني . كما قد يقوم على الملازمــة وهو المجاز المرسل ومن الأمثلــة على ذلك ، قول حســان بن ثابت :
وتزور أبواب الملوك ركائبنا ومتى نحكم في البرية نعدل (24)
المقصود بأبواب الملوك القصور فقد ذكــر الجزء وأراد الكل .
ويمكن أن تدخل في هذا الإطـــار التلازمي أو التجاور بمعنــاه العام الكناية بمعناها الحصري في البلاغة العربية . ويمكن أن نصف علاقتها بالمصاحبــة ومن أمثلتهــا قول ذي الرمــة :
عشية مالي حيلة غير أنني بلقط الحصى والخط في الترب مولع
أخط وأمحو الخط ثـم أعيده بكفي والغربـــان فـي الـدار وقع(25)
هذا السيل المتعاقب من الأفعال بالإمكــان الوقوف عند معانيها الحرفيــة وفي هذه الحالة فلا مجال لادعاء وجود أي محسن بلاغي . ولكن بالإمكــان مد البصر وراءها إلى معنى خفي وهــو الإحسساس بالضجــر واليأس والحسرة والإحســاس بالخراب بسبب البعد عن الأحبــة . الأمــر يتعلق هنــا بما سمته البلاغة العربية القديمــة الكناية عن صفــة ولم يكن مولينو وحده الذي نوه بصور المشابهــة فهذا اولفجانج كايزر يؤكد نفس المعنى :”إن المحسن الأكثــر شعريــة في الكلام المجازي كان دائمــا في نظــر الدارسين هو الاستعارة أي نقل مدلول من حيز إلى حيز آخــر غريب عنه” (26)
هذه النظرة التي تشدد على أهميــة صور المشابهــة في الشعر كثيرا ما سعى دارسون إلى تعميمها على غير الشعر إذ يعتبرون التفكير البدائي وبقاياه العالقة بمجتمعاتنا الحالية يقوم ويرتكز على نفس النظرة . إن البدائي لا ينظر إلى الشيء على أساس خصائصه وصفاته الذاتيــة المميزة والمعارضة لخصائص أشياء أخرى بل إنه ينظر إلى الشيء بوصفه مشحونا بملامح وخصائص أخرى بعيدة عنه بل بوصفه مسكونا بصفات غيره . تأمل ماذا يمكن في النظرة العادية بل النثرية أو الفعلية أن يحصل لشيء مثل المــاء ، إنه سائل شروب مثلا أو مادة للتطهيــر أو السقي … أو … إلا أن هذه المادة سرعان ماتتحول لكي تصبح غير ماهي في العادة ، حينما تمتد إليها عين البدائي فيجدها مادة علاجيــة من العقم أو لطرد الجان أو لجلب الخير … هذه النظرة لا تختلف في الجوهــر عن نظرة الشاعــر التشابهيــة analogique . ولهذا فإن الشاعــر حينمــا يمد بصره على عالم الأشيــاء فيجده منظمــا وموزعـــا في خانات صنافيــة يفصل بعضهــا عن البعض بحدود قارة وثابتــة وواضحــة . بل يفصل بعضها عن البعض بحدود قارة وثابتــة وواضحــة تعارضيــة . ولأمــر ما يقال بضدهــا تعرف الأشيــاء . ولهذا فإن الشاعــر الذي ينقض ويدمــر هذه الحدود القائمــة وهذه التعارضيــة يجد في صوت المياه السائلــة في الجدول المحدثة لصوت بفضل تحريكهــا الحصى في قعــر الجدول شيئــا آخــر مغاير تماما كما فعل المتنبي ، وهو يتحدث عن سيلان المــاء :
وأمـواه تصل بها حصاهـــا صلبل الحلي في أيدي الغوانــي
وهكذا فإن كل الأشيــاء يمكن أن تتقد فيهــا جذوة الشعــر بمجرد النظــر إليهــا لكي نرى فيهــا ملامح أشيــاء أخرى تشبههــا لا لكي نحصــر فيها ملامحها المميزة والمتعارضــة .
إن عين البدائي وعين الشاعــر متفقتــان في هذا الشأن إنهمــا تعمدان إلى بعث حال السديميــة في عالم الأشيــاء النثريــة أي المنتظمة انتظامـــا تعارضيــا . إن الأمــر يتعلق بالعودة إلــى حال ما قبل التشكل حيث الأشيــاء متداخلــة وحيث الإنســان لم يكــن يميــز بعد بين الأشيــاء بين الذات والموضوع بين الحضور والغياب إنــه العالم الأسطوري . ولهذا نفهم لماذا توصف الاستعارة بأنهــا أسطورة مصغرة وتوصف الأسطورة بأنها استعارة مكبرة . ومع ذلك فإن الاستعارة وباقي صور المشابهــة هي مجــرد بقايا الفكــر الأول أي الأسطورة . فالبدائي يجزم حينما يقول عن المحارب إنــه أســد بأنــه تطبــع حقــا بالأسديـــــة . وليس الأمـر كذلك بالنسبــة إلى الشاعــر حينمــا يقول ذلك ، إذ أنـــة يجزم أن المقصود هو مجــرد الاتصاف بالشجاعــــة .
———————————————-
الهوامــــش
1) Henrich Lausberg. element s de rheetorica literaria ed gredos , Madrid , 1975 p 17.
2) in J. L Joubert La poésie A ed Colin Gallimard , 1965 p 56.
3) ر. ياكبسون ، قضايا الشعريــة ، توبقال ، 1988 (ص . 31)
4) T. Todorov, littérature et signification, ed. Larousse, Paris 1967, pp. 102- 103.
5) J.F. lyotard, discours, figure, ed. Klincksieck, Paris 1971, p. 79.
6) Todorov, Critique de la critique, ed. Seuil, Paris 1984, p. 10.
7 ) ر. ياكبسون ، قضايا الشعريــة، توبقـــال ، البيضــاء 1988 (ص . 33)
8) محمود درويــش .
9) محمد الماغوط الفرح ليس مهنتي . دار العودة ، بيروت ، 1973 (ص . 87)
10) ح . كوهن بنية اللغة الشعريــة . توبقال البيضاء ، 1986 ، (ص . 108)
11) نفســه (ص. 210 – 11)
(12) Groupe u. Rhétorique de la poésie , ed. complexe, Bruxelles, 1975 (P. 36)
13) Reboul, Olivier, la rhétorique, ed. P. U. F. Paris 1984, pp. 35-65
14) عبد القاهر الجرجاني . دلائل الأعجاز . محمود محمد شاكــر. مكتبة الخانجي القاهرة 1984 . (ص . 262 . 63)
15) دلائل الإعجــاز . (ص . 445)
16) Reboul, Introduction à la rhétorique, P. U. F. 1991, p. 127.
17) Groupe U, Rhétorique générale, Larousse 1970, p. 93.
18) نفسه . (ص 91)
19) الأســرار . (ص . 6. 5)
20) الأســرار (ص . 313)
21) J. Molino, J. Tamine. Introduction à l ‘ analyse linguistique de la poésie, P. U. F. 1982, p. 152.
22) نفسه . ( ص. 153 )
23) نفسه . ( ص. 170 )
24) حسان بن ثابت . الروائع منتخبات شعريــة . المطبعة الكاثوليكية ، 1964 ، (ص . 174)
25) ديوان ذي الرمــة
26) W. Kayser, interpretacion y analisis de la obra literaria, ed. gredos, 1985, p. 185.
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=6613