عن التسنين الســردي والتسنـين الايديولوجـــي (الجزء الأول)

Bengrad
2021-06-04T22:28:31+00:00
العدد الثاني
8 أغسطس 2020420 مشاهدة

إن التساؤل حول عالم المعنى ، عن حجمه وعن شروط إنتاجه وعن نمط اشتغاله هو تساؤل حول النشاط الإنساني كبؤرة مركزية لهذا المعنى . إن هذا النشــاط لايكتفـــــي فقط بإنتاج موضوعات ثقافيـــة يلقي بها للتداول ، إنه يقوم أيضا بإيداعها في أنساق تمنحها وجودا مستقــلا ( الإنسان منتج للدلالة وأول ضحية لها ) . إن هذه الأنساق تدرك من خلال وجود سلسلة من القواعد التي تحدد وجود النسق في ذاته وفي علاقته بالأنساق الأخـــرى. وهذه القواعـــد تتحـــول إلى إرغامات وتشتغل كمصفاة يتم عبرها التواصل بين الفرد والآخرين ، إنها ذاكرة جماعية، أو تعميم لمجموع الذاكرات على حد تعبير ادوارد سابير ( E . SAPIR ) .

ومن هنا ، فإن النشاط الإنساني في غناه وتنوعه ، إذا كان يستعصى على الإدراك انطلاقا مما توفره الملاحظة المحسوسة ، فإنه في نفس الآن يقترح نماذج تفسر التركيب والتعقيد اللذين يميزان تمظهر هذا النشاط. وهذه النماذج يجب التعامل معها باعتبارها سلسلة من السلوكات المتكررة والقابلة للانضواء في بنية عامة . وهذه البنية المجردة يجب التعامل معها باعتبارها سننا code يكثف التجربة ويحولها إلى إطار عام يحتوي في داخله على أشكال متعددة للتحقق . وأشكال التحقق هاته هي ما يطلق عليه الايديولوجيا. والايديولوجيا بما هي تحيين للقيم ، فإنها تعيد تعريف هذه القيم المنتجة من خلال تجربة محسوسة وفق نسق يحدد لها مضمونا جديدا .

وفي هذا الإطار ينتصب النص كبؤرة مركزية للتحيين ولاعادة تعريف القيم . إنه يحين ما هو سائد على شكل قيم عامة ومجردة ، ويعيد تعريفها من خلال تنظيمها وفق أنساق جديدة مبنية فنيا . ويكون هذا التحيين إما نتيجة لتسنين إيديولوجي سابق ، وإما على شكل تسنين إيديولوجي هو جزء من عملية التحيين ذاتها .

على ضوء هذه الملاحظات سنقسم هذا المقال إلى جزءين : سنتناول في الجزء الأول عملية التسنين في ذاتها وفي علاقتها بتشكل النص كتشخيص لنسق ايديولوجي جاهز ( التسنين كفعل سابق ) . وسنتناول في الجزء الثاني عملية التسنين من زاوية فعل إنتاج الايديولوجيا من خلال ميكانيزمات النص نفسه ( التسنين الايديولوجي كفعل لاحق ) .

I – تعريف السنن

يتحدد السنن في مقاربة أولى وعامة كتكثيف للممارسة الإنسانية بكل أبعادها الذهني منها والعملي . إن الفعل المتكرر في الزمان وفي المكان يجنح إلى تقمص مظهر عام ومجرد ، لينفصل على إثر ذلك ، عن المحافل الإنسانية التي أنتجته ويتحول إلى سلطة لاتحد من جبروتها أية قوة .

على هذا الآساس ، فإن السنن ليس شيئا آخر سوى نموذج سلوكي مجرد يحتوي في داخله على كل تحققاته المممكنة . وبعبارة أخرى ، إنه الخزان الذي يغذي السلوك الفردي الخاص والملموس ويمنحه مصداقيته من خلال قياس درجة تطابقه مع النموذج الأصل . إن السنن بهذا المفهوم قريب جدا من مفهوم العادة بمعناها العريض والواسع ، مادامت العادة هي المواضعة والعرف والتعود على القيام بفعل معين ضمن دائرة ثقافية معينة .

إن هذا التعريف يحتاج إلى تدقيق أكبر . فإذا كانت الممارسة الانسانية بأبعادها المتعددة غير قابلة للاختزال في شكل وجودي واحد ، فإن هذا سيدفعنا إلى البحث عن الأشكال المتعـددة للتسنين . ذلك أن هذه الممارســة تقـوم بتحديد سلسلة من المناطـــق ، وهــذه المناطــق تملك ”استقلالية” في الوجود ، وفي الاشتغال وفي نمط التمظهر . وهكذا ، لا يمكن الحديث عن سنن واحد ، بل يجب الحديث عن اسنن متعددة تغطي النشاط الإنساني في مجمله . من هنا يمكن الحديث عن نسق دلالي عام (ايكو ) يحتوي في داخله على مجموعة كبيرة من الاسنن .

إن هذا التنوع هو الذي دفع كلودشابرول ( Claude chabrol ) إلى رصد ثلاثة تعاريف للسنن وكل تعريف من هذه التعاريف يغطي نشاطا انسانيا معينا :

1 – التعريف الأول : إن مفهوم السنن يستعمل كمرادف ” لحقل ” ، ويتعلق الأمر في هذه الحالة بتجميع ” للعلامات ” وفق مبادئ جوهرية وليس شكليـة ، مثال ذلك كل مايــدل على السكــن ، التغذية، الاقتصاد ، القرابــــة ( الاسنن الثقافيــة كما يستعملهــا بارث ) ( Barthes).

2 – التعريف الثاني : إن السنن ، في هذه الحالة يعين نسقا من التقابلات الشكلية للحدود ( les termes ) أو القواعد الشكلية بدون مضمون لكسيمي محدد . وهذه الاسنن تمكن من الكشف عن الجمل أو النصوص ( عندما تتم عملية استبدال المتغيــرات بالثوابت ) . ويدخــل ضمــن هذا التحديــد الاســنن الفعليـــة ، الاسنن البلاغية أو الميتالغوية كما يتصورها بارث . كما يدخل ضمنــه تصور كريماص للدلالة الاصولية والنحو الاصولي ( كتابه Du sens ) .

3 – التعريف الثالث : يتحدد السنن هنا كتأليف لصور أو سمات دلالية ( معانـم ) تمكن من إعطاء وصف بنيوي للبعد الدلالــي ( السردي ) داخــل النــص . ويتم هــذا الوصــف بعــد انجــاز الاستثمار اللكسيمي .(1)

ويمكن إضافة تعريف رابع : ويتعلق الأمر بمفهوم المؤول كما صاغه وبلـــــــوره بورس . فإذا كــــان المؤول مرتبطا بفكرة القانون والضرورة، وبفكرة التوسط الالزامي بين عنصرين ، (2) ، فإنه يعد من ناحية ثانية ضمانة على وجود أي حوار بيإنساني ، ذلك أن كل حوار يقتضي أساسا مشتركا بين المتحاورين ( أو على الأقل معروفا عند الاطراف المتحاورة ) . فإذا كان كل مؤول يشتغل كقــاعدة عامــة يتم عبرها إنتاج الدلالة وتداولها ، فإنه من هذه الزاوية يشتغل كسنن يكثف داخله الأشكال العامة للسلوك الإنساني ( السلوك اللساني ، السلوك الإجتماعي … ) القابلة للتحقق في ممارسات خاصة ومحددة داخل الزمان وداخل الفضاء …

إن هذه التعاريف مجتمعة تؤكد حقيقة واحدة مفادها أن النشاط الإنساني ينتج سلسلة من القواعد والضرورات التي تسمح بالتواصل وخلق حوار بيإنساني . وهذا الإنتاج يتم وفق وجود مناطق متعددة تعكس غنى النشاط الإنساني ، وتنوع هذه المناطق هو الذي يفسر تنوع الاسنن وغناها . تأسيسا على هذا يمكن الحديث عن وجود نسق دلالي شامل يولد ( ضمن حالة إنسانية محددة ) نموذجا سلوكيا عاما ، ويتمفصل هذا النموذج في أسنن متعددة . وبإمكاننا ، انطلاقا من كل سنن ، الحصول على أسنن فرعية تشرح نمط اشتغال كل سنن على حدة ، لنصل في النهاية إلى تحديد لحظة التمظهر التي تشتغل كخرق للمتواصل داخل هذا السنن ، وذلك من خلال صبه في فعل معين قابل للمراقبة . ويمكن تحديد سلسلة الارتباطات هاته في الشكل التالي :

حالة حضارية ما

( النسق الدلالي الشامل )

( ايكو )

نموذج سلوكي

( يخبـر عن الحالــة الحضاريـة )

سنن 1 سنن 2 سنن 3

سنن فرعي سنن فرعي س فرعي س فرعي س فرعي س فرع

1 2 1 2 1 2

لحظة التمظهر

( السلوك الفردي المتحقق )

إن ما يهمنا في هذه التعريفات هو الوصول إلى تحديد نمطين من التسنين . يتعلق الأول بالتسنين الإيديولوجي داخل نص ما ( النص السردي أساسا ) . ولايعود الأمر هنا إلى الكشف عن محتوى ايديولوجي معطى بشكل صريح أو ضمني داخل نص ما ، بل ستكون غايتنا هي تحديد نمط وجود هذه الإيديولوجيا كجهاز مفاهيمي عام ومجرد ، باعتبارها سلسلة من السلوكات البسيطة التي تتميز ببديهيتها لأنها تعد جزءا من إرغامات النشاط اليومي . وهذا ما يجعلها غالبا تنفلت من الدرس والمراقبة . ومن هذا المنظور ، فإن هدفنا سيكون هو الوصول إلى تحديد نمط تمفصل الجهاز المفاهيمي في الجزئيات السلوكية التي يصفها النص . وبعبارة أخرى ، فإن دراستنا ستتوجه نحو تحديد كيفية إنتاج سلوك معين لايديولوجيا ما . وكيف أ ن الصياغة الوصفية البسيطة تحمل في داخلها مظهرا ايديولوجيا . إن هذه الملاحظات ستقودنا إلى النظر إلى النص كجهاز يخون نفسه بنفسه من خلال تحديد الهوة الفاصلة بين ” الأنا ” الكبرى ( السارد ككون يفيض عنه النص ) وبين مجموع ” الانات ” المتحركة داخل هذا النص .

ويتعلق التسنين الثاني بالتسنين الســردي ، وما نقصــده بالتسنين السردي ، استنادا إلى التعريف الثاني الــذي يقدمــه شابرول ( C. Chabrol ) هو مجموع القواعد التي تقع في أساس إنتاج نص سردي ما سواء تعلق الأمر بالمستوى الملفوظي حيث إن بناء نص ما يستند من جهة إلى القواعد التي يفترضها فعـل القــص كفعاليــة إنسانية عامة انتجت عبر تاريخها ، أشكالا كونية تشتغل كتحديد لكنــه النص وجوهره ، كما تشتغل كإرغامات تحدد له اتجاهاته بشكـــل مسبق ( التمييز مثلا بين الحكايات الشعبية والرواية المعاصرة ) . ويستند ، من جهة ثانية ،إلى وجود كون دلالي مفاهيمي يتميز في مرحلة أولى بوجود سلسلة من العلاقات تخبر عن الابستيمي ( épistimé ) البشري وطريقة تنظيمه للمضامين الدلالية المتنوعة . ويتميز في مرحلة ثانية بوجود عمليات ، أي وجود فعل تشخيصي يتخذ من المادة المضمونية قاعدة نحو ارساء أسس ننطلق منها إلى إعطاء صيغة تصويرية للحدود المفاهيمية . إن هذا الطابع لايعيد إنتاج هذه المضامين كما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة ، بل يقوم بإغنائها وتعديلها ومنحها أشكالا جديدة للوجود . أو تعلق الأمر بالمستوى التلفظي حيث إن بناء نص سردي مالايقوم على أساس وجود مادة قصصية جاهزة يكفى تقديمها إلى القارئ في طابعها الغفل لكي نتحدث عن أثر فني . إن الأمر على خلاف ذلك . فبناء نص سردي ما يقوم على أساس وجود أداة توسطية تجعل من المادة القصصية لاتدل من خلال مضمونها بل من خلال التشكيل الذي تخضع له وعندها فقط يمكن الحديث عن شكل فني . فالتحول من القصة إلى النص السردي يقتضي استحضار سلسلة من التقنيات التي تقوم بتكسير الطابع المتواصل للمادة القصصية وتقدمها وفق صياغة خاصة هي ما يشكل الاثر الجمالي في نهاية الأمر . فقد يحدث أن لاتمتلك القصة على مستوى محتواها الحدثي أي تأثير، إلا أن طريقة بنائها وطريقة توزيع أحداثها وزمانها وفضائها وبناء شخصياتها يجعل منها نصا مولدا لسلسة من الأثار الجمالية .

استنادا إلى هذا ، فإن الفعل السردي ( أداة التنصيص الأولى ) كتعبير مطلق عن الذاتية ( أو يبدو كذلك على الأقل ) ، يعتبر في جوهره، ورغم مظهره هذا ، أداة مسننة بشكل سابق “فالسلسلة الدالة هي أسـاس تشكـل الانــا ، ذلـك أن اللغـة سابقــة عــنـا ومــحددة لكيانــنا) ( lacan ) ، (3) وبناء عليه ، ” فالانا ” رغم مظهرها الذاتي تتحرك وسط سلسلة من الارغامات التي تقلص من حجم هذه الذاتية وتدرجها ضمن سياق يتحكم في تشكلها ونمط إنتاجها لدلالة ما ( بورس كان يتحدث عن ” الانا ” باعتبارها النوع الذي تبلوره الثقافة لكل الانات ” الممكنة ) (4) ”فالذاتية هي صوت ، ولكنها في نفس الوقــت أداة لنقل كل ما هو جماعي . ” (5)

من هنا فإن إنتاج أثر دلالي ما ( ايديولوجي ) لا يعود إلى المدلول ككيان مكتف بذاته ، بل إلى الصياغة التي تعطى له . وبعبارة أخرى فإن الملفوظ لايستنفد كامل إمكانياته الدلالية إلا من خلال الاثار التي تتركها الذات المتلفظة لحظة إنتاجها لهذا الملفوظ . فالتمثيل ( إعطاء معادل لغوي لما هو غير لغوي ) ليس فعلا محايدا وبريئا . إن كل تمثيل هو تأويل .

II – التسنين الإيديولوجي وعالم الممكنات

إن العالم الذي يصفه النص ينبني ويشيد انطلاقا من تمثيل موسوعي ( ايكو ) يشتغل كمعادل مخيالي لعالم التجربة الواقعية . وبعبارة أخرى ، فإن الكون النصي لايمكن أن يدرك وأن تفك رموزه إلا من خلال وجود تشابه بين التجربة المؤسسة فنيا ( بنية مخيالية ) وبين التجربة الفعلية ( بنية واقعية ) .

وبناء عليه ، إننا أمام معادلة تربط بين عالم الممكنات (6) وبين العالم الواقعي . فإذا كان العالم الواقعي يتحدد كسلسلة من الموجودات التي يمكن التأكد من وجودها ( كل ما ينتمي إلى عالم تجربتنا ) ، فإن ”عالم الممكنات يتحدد كبناء ثقافي ” . (7) وكل بناء ثقافي هو اختصار للتجربة الواقعية في نموذج يصفي الافعال وينزع عنها خصوصيتها ليحولها إلى حالة عامة .

فإذا كانت كل تجربة فردية هي تجربة فريـدة ولا يمكن إعادة انتاجها، فإن التواصل ممكن بفضل وجود نموذج ” يهذب ” و ” يعمم ” هذه التجربة .(8) إن هذا التحديد يشير إلى مستويين مختلفين في تنظيم التجربة الإنسانية :

1 – مستوى بنية النص كشكل مكتف بذاته ومالك لقواعده وقوانينه التي لا يمكن ، بأي حال من الأحوال، اختزالها في مجرد محاكاة “للواقع ” .

2 – مستوى البنية ” الواقعية ” أي مجموع الأشياء التي تطمح إلى اكتساب تمثيل لساني ( احتلال موقع داخل الكون اللساني ) . ” ذلك أن الواقعي هو كل ماهو قابل للتعيين (…) إن الامر يتعلق بترويض لساني للطبيعة ” (9) والألسنة ( Verbalisation ) ليست شيئا آخر سوى الامساك بكنه الأشياء وإدراجهــا ضمــن صيغــة تعميميــة ( قابلة للتعميم ) ضامنة للتواصل .

إن التواصل بين العالمين يتحدد من خلال النمذجة التي تسمح لنا بالانتقال من العالم الأول ( العالم الواقعي ) إلى العالم الثاني ( عالم الممكنات ) وفق قواعد تخلق سلسلة من السياقات المحددة فضائيا وزمانيا . وسيكون قبول هذا العنصر ورفض ذاك عملية تتم انطلاقا من قدرة العالم الثاني على استيعاب ما يقدمه الأول . فما هو ممكن يقاس بقدرته على الانتظام داخل العالم الواقعي لاكفعل حقيقي قابل للمعاينة ، بل كفعل يدخل ضمن مسار ممكن للأحداث ، أو حالة ممكنة للأشياء ، ”فتحيين لكسيم مثل ” رجل ” من خلال خاصية ” كائن إنساني ” أو ” يملك رجلين ” معناه النظر إلى عالم القصة كعالم واقعي ( أي عالم تحكمه قوانين عالم تجربتنا وموسوعتنا الحالية ، إلا في حالة وجود إشارة تؤكد عكس ذلك ) . وفي المقابل ، فإن توقع ما يمكن أن يحدث في القصة معناه تحديد فرضيات حول ما هو ممكن ” . (10) وفي كلتا الحالتين ، فإن ”الواقعي ” و ” الممكن ” يتواصلان فيما بينهما انطلاقا من النمذجة التي تشتغل كبناء ثقافي يحكم العالمين معا .

وعلى هذا الأساس ، فإن ” عالم الممكنات ” يمثل أمامنا ، إما على شكل إطار محدد لسلسلة من الوضعيات الإنسانية ، أي كسلسلة من السلوكات والافعال والمواصفات . وبعبارة أخرى إنه عالم يتحرك داخل الفضاء وداخل الزمان حيث ” يعمل الإنسان ” و ” ينام ” و ” يتجول في الشوارع ” و ” يتسلق الجبال ” . وإما على شكل رزمة من القيم ذات الطابع المفاهيمي المجرد كالخير والشر ، والصدق والكذب ، الحرية والعبودية الخ … وإما على شكل سلسلة من الأدوار الاجتماعية كالعامل ، والفلاح والطالب والأستاذ والمدير والشرطي …

ومع ذلك ، فإن الأمساك بهذه الأبعاد الثلاثة لايتم بشكل منفصل ، أي أننا نقوم بتحديد خانة للأفعال وأخرى للقيم وثالثة للأدوار الإجتماعية . إن الأمر على عكس ذلك . فالتجربة الإنسانية تجربة كلية يستحيل التمييز ( أو على الأقل يصعب القيام بذلك ) داخلها بين الممكن والواقعي ، بين المجرد والمشخص ، بين ما ينتمي إلى الواقع وبين ما ينتمي إلى المخيال . إن ما هو مفيد في هذا التمييز هو الوصول الى تحديد مستويين في وجود القيم :

* مستوى استبدالي أي الوجود العام والمجرد .

* مستوى توزيعي أي الوجود المشخص التصويري .

وفي هذا المجال يميز كريماص بين الايديولوجيا وبين الاكسيولوجيا ( Axiologie ) . وكل مقولة تشير إلى نمط معين لتنظيم القيم . ورغم انتماء المقولتين معا إلى كون واحد أي النسق الدلالي الشامل كتعبير عن شمولية ماتنتجه الحياة ، فإن كل مقولة ( أو العالم الذي تحيل عليه ) يشتغل كشكل من أشكال التعامل ( الامساك ) مع التجربة الإنسانية .

ففي حالة الاكسيولوجيا (11) ” فإن القيم ستكون منظمة في أنساق وتمثل أمامنا بصفتها صنافة ( Taxinomie ) مثمنة . إن القيم التي تعود إلى الاكسيولوجيا هي قيم محتملة وتعد نتاجا للتمفصل السميائي للكون الدلالي الجماعي . وبهذا فهي تنتمي إلى مستوى البنيات السميائية العميقة . إنها تشيــر إلى نمــط الوجــود الاستبدالي ( paradigmatique ) للقيم . ويمكن القول إن كل مقولة ممثلة في المربع السميائي ( حياة م موت مثلا ) قابلة لأن تأخذ طابعا اكسيولوجيا بفضل استثمارالحدود (dexis ) الايجابية والسلبية في المقولةالمحددة لحالة وجدانية ( Thymique ) مقبول (م) مرفوض ” . (12)

فإذا كان النسق الدلالي الشامل غير قابل للوصف الكلي ، (13) فإن الكون الأكسيولوجي هو الصيغة الأولية لتمفصل هذا الكون في ثنائيات تطرح كإمكانية للوصف الجزئي . وهذا يعني اقتطاع أجزاء من النسق الدلالي وطرحها للتداول باعتبارها عناصر قابلة للانضواء داخل سياقات محددة . وهذه السياقات الخاصة هي مايطلق عليه كريماص بالوضع المحين للقيم أي الايديولوجيا . ” فالايديولوجيا تتميز بالوضع المحين للقيم . وهي بهذا الطابع ، تمثل أمامنا كتنظيم توزيعي للقيم ، وقابلة ، نتيجة لذلك ، للاستثمار في نماذج تشتغل كإمكانيات للإجراء السميائي . إن هذه القيم ، في تقابلها مع الاكسيولوجيا تعتبر ايديولوجيا ( بالمعنى الضيق، أي السيميائي للكلمة ) . إن تحقق هذه القيم يدمر الإيديولوجيا، باعتبارها كذلك . وبعبارة أخرى ، فإن الايديولوجيا هي بحث دائم عن القيم ، ويمكن اعتبار البنية العاملية التي تخبر عن ذلك كعنصر دائم الوجود في كل خطاب ايديولوجي . ” (14)

إن هذا التمييز بين الاكسيولوجيا بصفتها وجودا قبليا للقيم (التنظيم المحتمل وخارج أي سياق للقيم ) وبين الايديولوجيا بصفتها وجودا بعديا لنفس القيم ( التنظيم المحين داخل سياق محدد للقيم ) يتطابق مع التمييز الذي يقيمه التوسير بين الايديولوجيا كتصـــــــور عـــــــام ، وبين مفهــــوم الايديولوجيــــــا المجســـــدة ( l’idéoLogie-Materialisée ) . والطرف الثاني داخل المعادلة ( أي الايديولوجيا المجسدة ) هو ما يشكل حقا ما نصطلح عليه بالايديولوجيا . ذلك ” أن الأفكار أو التمثيلات الخ التي تشكل ، فيما يبدو ، الايديولوجيا لاتمتلك وجودا مثاليا أو فكريا أو روحيا ، بل تمتلك وجودا ماديا . إن الايديولوجيا لاتظهر إلا مجسدة في جهاز وفي ممارسته أو ممارساته . إن هذا الوجود وجود مادي ” . (15) فكل الممارسات المنتشرة في المجتمع ، حفلات الزفاف، مراسيم التأبين ، تلقي التهاني ، وأيضا طريقة الجلوس والأكل واستقبال الضيوف الخ ، تندرج ضمن مايسميه التوسير الايديولوجيا المجسدة ، وهي طريقة أخرى للقول إن القيم المجردة تتخذ من خلال الممارسة وجها مشخصا . ” ومع ذلك فإن هذه الممارسات هي مجرد تحققات ممكنة للاديولوجيا المجسدة . فالايديولوجيا تتسلل إلى كل مستويات الحياة الاجتماعية . وهكذا فإن كل مجتمع ينتج مجموعة من النماذج السلوكية التي يجسد عبرها تطور قيمه الخاصة … ] وتشكل هذه النماذج أدوارا اجتماعية يتحدد من خلالهــا كل فرد . إن هذه النماذج ( … ) تخلق حالات انتظار سلوكية ( … ) . إن تفكيك وإنتاج هذه الأدوار يضمنه تركيـــــب للعلامــــــات ( la syntaxe de signes ) يسمح بنقلها إلى مستوى اللاوعي الذي يبرمج مجموع حياتنا الإجتماعية .” (16)

III – التسنين الايديولوجي والتسنين السردي

إن النص السردي ( ومعه باقي النصوص الأخرى ) باعتباره نمذجة ثانوية ( لوتمان ) ، لايمكن أن ينفلت من البرمجة المسبقة للأدوار والحالات الإنسانية ، فإذا كنا قد حددنا من جهة الاكسيولوجيا كمستوى سميائي سابق عن التحقق اللساني ، وحددنا الايديولوجيا كممارسة سميائية مباشرة ومتمظهرة من خلال سند لسانـــي ( أو غير لساني الصورة مثلا ) ، فهذا معناه أن هناك تسنينا مزدوجا :

* تسنين سابق عن التمظهر النصي ، فالقيم قبل أن تتحقــق في فعل خاص كانت تملــك وجــودا يعــد نقطــة نهائيــة داخــل سيرورة فعلية (المسارات الممارساتية المنتجة للقيم . فقيمة ، كالشر مثلا هي وليدة سلسلة من الافعال المتكررة المعبرة عن فكرة الشر وتعارف الناس عليها باعتبارها كذلك ) .

* تسنين لاحق ، فالنص عندما يستحوذ على هذه القيم ، فإنه يمنحها وجودا خاصا أي الوجود الفني . وهذا الوجود الجديد هو وليد التسنين السردي . وبعبارة أخرى فإن المادة المطروحة للتمثيل تخضع في مستواها المحايث لمفصلة خاصة تنظمها في محاور أو مقولات معنمية تامة . وهذه التقابلات ليست معطاة دائما بشكل ” طبيعي ” ، بل تبنين أيضا . هذا من جهة أما من جهة ثانية ، فإن صب الوجه المفاهيمي للقيم داخل مسارات تصويرية ( النظر إلى الحياة من خلال حدود زمنية ) ، يؤدي إلى خلق تقابلات جديدة ، ليست موجودة في سجل الذاكرة الثقافية المحددة داخل الموسوعة ( قد يلغى التقابل حياة م موت، وتصبح الحياة مرادفا للموت حالة الاستشهاد مثلا ) . ” فالوجود الاستبدالي للقيم داخل الفضاء الروائي يمكن أن يتخذ شكلين :

أ – كتنظيم لشبكة من التناظرات التي تطرح للتداول من خلال إعطائها بعدا تراتبيا .

ب – موضعة خاصة للقيم تسير في اتجاه خلق مشروع روائي خاص .” (17)

إن وجود النص السردي ككيان خاص ( ممارسة خاصة ) يتحدد من خلال الشكل الثاني لنمط وجود القيم ، أولا باعتباره صياغة جديدة للقيم وفق سياقات خاصة هي سياقات النص الشكلية ( خصائص النوع الشكلية ) ، وثانيا باعتباره زاوية نظر تدرج من خلالها هذه القيم ضمن مسار يخلق سياقا جديدا يقود إلى فهم ” جديد ” و ” خاص ” للحياة .

وبما أن النص ينبني دائما انطلاقا من وجود بنيتين : الأولى عميقة وتمثل كتنظيم مفاهيمي للقيم . والثانية سطحية وتعد تنظيما تصويريا ومشخصا للقيم ، فإن الانتقال من البنية الأولى إلى البنية الثانية هو الذي يحدد التلوين الثقافي الايديولوجي للنص . وبعبارة أخرى ، إذا كنا نعترف بمطلقية القيم في المستوى الأول ، فإن شكل تحقق هذه القيم هو الذي يحدد الإطار الدلالي المثمن داخل النص .

وقد يبدو هذا التوزيع للقيم منافيا لحركية الحياة وديناميتها ، إلا أن هذا التحفظ سرعان ما يختفي إذا نظرنا إلى الإشكالية من زاوية أخرى . فالحديث عن تنظيمين مختلفين للقيم لا يعني بأي حال من الأحوال ، اقرارا بوجودين قارين وساكنين للقيم . فإذا كانت القيم في مستواها المفاهيمي المجرد هي المادة التي تغذي السلوك الفردي الخاص ، فإنها تخلق أيضا سلسلة من الاشكال الوجودية الخاصة بهذه القيم . فمادمنا لاندرك هذه القيم إلا من خلال الممارسة الفعلية وضمن سياقات محددة ، فهذا معناه أن كل شكل من أشكال وجود هذه القيم يعد إغناء للمادة المولدة لهذه الأشكال . فكل ممارسة فردية للقيم تمنح لهذه القيم أبعادا جديدة . إن ” الثقافة تفكك المضمون وتثبت في وحدات ثقافية ليس فقط تلك الوحدات البسيطة كالألوان ، وعلاقات القرابة، وأسماء الحيوانات، وأجزاء الجسد ، والظواهر الطبيعية ، والقيم والأفكار، ولكنها تقوم بنفس الشيء فيما يخص تلك الأجزاء الكبيرة المسماة ايديولوجية. فالمواقف الايديولوجية تتولد من تقابلات السلاسل التوزيعية الطويلة المبنينة وفق بعض المحاور ” . (18) وبناء عليه ” فالثقافة هي النمط الذي يجزأ وفقه نسق ما ، ضمن شروط تاريخية وانتروبولوجية خاصة ، في حركة تمنح أبعادا موضوعية للمعرفة . إن هذا التجزيئ يشمل جميع المستويات بدءا من الوحدات الإدراكية البسيطة وانتهاء بالأنساق الايديولوجية” . (19)

إن هذه التحديدات المتنوعة للنشاط الإنساني : النسق الدلالي الشامل كإطار عام يحتوي في داخله على كل ما انتجته الحياة من قيم ، والثقافة كنمط وطريقة لتوزيع هذه القيم ( ايكو ) ، وكتحيين تشخيصي للقيم ( كريماص ) وكتجسيد ( التوسير ) تقودنا إلى تناول النص السردي باعتباره بؤرة لسلسلة من التسنينات الجمالية والايديولوجية والسردية ، وكل تسنين يشتغل في انفصال وفي اتصال مع التسنينات المجاورة في نفس الآن ، فإذا كان التسنين الجمالي( قواعد النوع ، قواعد النوع الفرعي : الرواية كنوع ، ورواية الاطروحة كنوع فرعي مثلا ) يقتضي ، لكي يتحقق سلسلة من التقنيات والصياغات الخاصة ( إن الأثر الجمالي ليس طاقة حدسية وذاتية لايكشف عن كنهها سوى الذات المتلقية ، بل يعود إلى مايتولد عن أنماط البناء الخاصة بكل كون فني ) ، فإنه لاينفصل عن التسنين الايديولوجي مثلا . فالقول بوجود محاور دلالية داخل النص تتمفصل في مقولات محددة يؤدي تظافرها إلى خلق كون دلالي عام يشكل نسقا للقيم المثمنة داخل النص ، لايعني أي شيء إذا فصلنا هذا الكون عن السند الفني ( سواء تجلى ذلك من خلال الأداة اللسانية أو أداة أخرى غير لسانية ) المولد للآثار الجمالية . فالمعنى شكل ولايمكن أن يدرك إلا باعتباره كذلك .

وهكذا يمكن النظر إلى النص السردي من زاويتين :

* إما كتمظهر صريح لايديولوجية معينة ( نمط بناء الروايات التي تشتغل على ايديولوجيا جاهزة ، حيث إن النص يتحول إلى اخراج سردي لمقولة أو جهاز ايديولوجي سابق في الوجود عن هذا النص ، (سواء تعلق الأمر بعقيدة دينية ، أو فلسفية / ايديولوجية ) وسنكون حينها أمام مايسمى برواية الأطروحة بكل خصائصها الفنية : الدلالية منها أو الشكلية ، الخطابية أو السردية .(20)

* وإما كتمظهر لمقولة عامة لاتملك ( ظاهريا على الأقل ) أي مضمون ايديولوجي سابق عن تحققها في سياق خاص كثنائية الخير / الشر ، العلم / النور ، الحرية / العبودية .

1 – التسنين الايديولوجي كفعل سابق (*)

إن الحالة الأولى تطرح الانتقاء القيمي وكذا الاختيارات السردية المصاحبة له ، كعملية تتم في مستوى سابق على شكل خطاطة تحدد لكل لحظة سردية مضمونها ضمن أكبر توقعية ممكنة . إن الأمر يتعلق هنا بإعطاء مقابل تصويري لجهاز مفاهيمي تخومه ومفاهيمه محددة ومعروفة بشكل سابق . فالنص لايخلق ايديولوجيا ولاينتجهــا، إنه يتحول إلى ذريعة لعرضها من خلال صبها داخل تجارب إنسانية (وضعيات إنسانية ) منتقاة هي الأخرى بشكل يضمن نقاء هذه الايديولوجيا وصفاءها .

إن خصوصية أي نص ، في هذه الحالة ، لاتتحدد من خلال قصة خاصة متميزة بأحداثها ووقائعها ، بل تعود إلى نمط بناء الخطاب الذي يشتغل كتحيين لسلسلة من القيم موقعها محدد بشكل سابق داخل نسق دلالي . (21) وبعبارة أخرى فإن حجم السميوزيس (22) ومسار التأويل المتولد عنها محددان بشكل سابق داخل الاختيار الايديولوجي نفسه . فإذا كنا نقر بأننا نتحرك داخل نسق دلالي شامل تتداخل فيه كل القيم حيث الشر مرتبط بالخير ، والقبيح مرتبط بالجميل ، والصدق رديف للكذب ، فإن أي فعل تأويلي ينبني ويتوقع انطلاقا من حقل السميوزيس اللامتناهية . إلا أن هذه السميوزيس تعد ، في حالتنا هاته، محدودة ومحددة منذ اللحظات الأولى لأي اختيار اديولوجي . فإذا ضمنا نصا ما، محورا دلاليا ( الحرية / العبودية مثلا ) وأدرجنا هذا الكل داخل نسق ايديولوجي معـــين ( الماركسية مثلا ) ، فإن تحقق هذا المحور في مسارات تصويرية وسردية لايمكن أن يخرج عما يقترحه هذا النسق منذ اللحظات الأولى . بحيث أن كل الصياغات التي يمكن أن تعطى له :

* تصوير طبقة رأس المال وفضح اخلاقها .

أو

* تصوير مجتمع ” الشعب ” وتثمين اخلاقه .

أو

* رسم حدود البرجوازية الصغيرة وفضح تناقضاتها .

فإنه سيجد له صدى فيما يمكن أن نقرأه في أدبيات الفلسفة الماركسية .

وبناء عليه فإن الترسيمة السردية تتحين انطلاقا من وجود ”موجهات ” تفرض سلسلة من الارغامات على قواعد البناء السردي . فإذا كان نسق ايديولوجي ما يطرح الحياة من خلال ثنائيات تضع كل ماهو ايجابي في جانب وتثمنه ، وتضع كل ماهو سلبي في جانب آخر وترفضه ، فإن الترسيمة العاملية (23) بصفتها سندا لكل التحولات (التحولات كخاصية من خصائص النص السردي ) تختصر في وصف ثنائي الحدود : الذات كمركز لكل القيم النبيلة ، والقوى المعيقة كتعبير عن كل ماهو قبيح ولا وجود لامكانية التداخل أو عقد مصالحة بين العالمين .

من هنا تبنى هذه الذات ” كأنا ” مثالية معبرة عن كل ثقافي صافي ونقي ، أما ” الأنات ” الأخرى التي لاتدخل ضمن هذا الكل الثقافي ، أو تخرقه أو تحيد عنه ، فإنها تقع ضمن خانة مايجب أن يرفض . وعليه ، يمكن الحديث عن خطاب أصلي ثابت ولامتناهي في الزمان وفي المكان ، وعن خطاب متفرع عنه . إن قوة الخطاب الثاني ونجاحه مرتبطة بدرجة اقترابه من الخطاب الأصل، الخطاب النموذج أي خطاب ” الأنا ” المثالية .

إن هذه التوقعية الكبيرة تجد جذورها في النموذج المولد للعالم المشخص نفسه ، وبعبارة أخرى فإن المسار التوليدي (24) الذي يقود – داخل كل نص سردي – من العناصر الأكثر تجريدية ، الى العناصــر الأكثر محسوسية ، أي من النموذج التكويني ، (25) الى البنية الخطابية كوجه مشخص ، يحتوي في داخله على نمط واحد للتحيين . فالعلاقات (العلاقات المكونة للنموذج التكويني ) تتحول إلى عمليات (عمليات القلب الأولى التي تقود من النفي إلى الاثبات ومن الاثبات إلى النفي )(26) وفق إمكانية واحدة للتحقق ، والعمليات الخالقة للذات الفاعلة ( الفعل التركيبي ) تحدد لهذه الذات نمط فعلها من خلال تسنين سابق عن الكون الدلالي الذي تم اقتطاعه من النسق الدلالي الشامل . وهذا التسنين الخاص للقيم يفرض تسنينا خاصا للفعل الحدثي نفسه. فكل شيء يجب أن يؤول لا في ذاته وضمن سياقه المباشر ، بل انطلاقا من ” الموجهات ” التي يفرضها النموذج . وهكذا نجد أنفسنا أمام تطابق بين الفعل الاخباري والفعل الوصفي والفعل السردي . وبعبارة أخرى فإن الفعل الوصفي يتطابق مع الفعل السردي . فالمواصفات هي وجه آخر للفعل والفعل ليس إلا تحققا للمواصفات . إن الأمر يتعلق برد كل السلوكات والمواصفات والأحداث إلى خانة واحدة تفسر الكل الثقافي المعبر عنه من خلال صوت السارد . وهذا الكل هو المرادف الحدثي (السردي ) للجهاز القيمي الذي تولد عنه الكون السردي .

إن هذه الموجهات تتحقق بشكل مزدوج :

* أولا على شكل ارغامات خطابية ، حيث إن توزيع الوحدات الدلالية الصغرى ، وكذا توزيع الفضاء والتقطيع الزمني ، كل هذه العناصر تسير في اتجاه خلق انسجام الكون الدلالي المثمن بدئيا . وبعبارة أخرى، فإن المعنى يبنى وفق استراتيجية تلغي التشويش وتلغي البياض الدلالي وتقاوم التأويلات التي قد تقود إلى فهم آخر للنص غير مايريده الصوت الخالق للكون السردي .

* ثم على شكل ارغامات سردية ثانيا . فالخط السردي يجب أن يسلك سبيلا يقود في نهاية الأحداث إلى خلق عالم سردي مترابط الحلقات .

أ – الموجهات كإرغامات خطابية : في معرض حديثها عن بنية المثل (l’exemplum ) تؤكد Rubin – Suleiman أن ” كل كون دلالي مؤسس على قيم واضحة هو كون بسيط . ” (27) والبساطة في هذا السياق تعني البساطة الفنية ( وليس البساطة ، بمفهومها العادي بطبيعة الحال ) فماذا نعني بالبساطة ؟ إن مفهوم البساطة من الناحية الدلالية يحيل على كون دلالي يفكر فيه ( التسنين الأول ) ويبنى ( التسنين الثاني أي عملية التحيين داخل سياق خاص ) ويؤول ( استهلاك النص ، أي عملية التلقي ) انطلاقا من استراتيجية تحارب ” الطفيليات ” التي قد تشوش على التلقي المثالي المبرمج في فعل التسنين نفسه . وبعبارة أخرى ، إن صياغة الثنائيات القيمية وإدراجها ضمن جهاز اكسيولوجي وادلجتها (بالمفهوم الكريماصي للكلمة ) و كذا عملية التأويل باعتبارها فعلا مساهما في إنتاج المعنى يجب أن تظلا مسيجة بكل العناصر والقواعد التي يفرضها التسنين الأول .

وعلى هذا الأساس ، فإن الانتقاء السياقي يتم بشكل مزدوج : فمن جهة يشير هذا الانتقاء إلى الكون الدلالي الذي تم اقتطاعه من النسق الدلالي الشامل وتقديمه كبرنامج للفعل والتخطيب ( discursivisation ) وأيضا كبرنامج للتلقي .

ويشيرمن جهة ثانية إلى العالم المحين ، أي إلى كل المعطيات المتوفرة متجلية على شكل نص . وهذه المعطيات المشخصة تشتغل وفق عملية الانتقاء الأولى .

من هنا ، وعلى ضوء عملية الانتقاء هاته ، فإن ” القيم التي يصارع من أجلها البطل لاتبنى ولاتكتشف أثناء صياغة القصة . إنها معطاة منذ البداية بشكل يجعل من تداولها داخل القصة يشتغل كشرح لحقائق مقبولة بشكل سابق عوض أن تكون اثباتا جديدا أو اكتشافا لها ” . (28) إن لحظةالانتقاء القيمي تشتغل في نفس الآن كتحديد للوعاء الذي يحتوي القيم ويحددلها تكوينها الخاص ، وكاستشراف للعالم القابل للتحيين ولكن وفق قواعد تؤكد الانتقاء الأول وتضعه كإمكانية وحيدة للتحيين .

وبناء عليه ، فإن النص يبنى كعالم مغلق لأنه محدد بغائية سابقة عن وجوده . فالمعنى لايبنى ولايؤسس انطلاقا من تجميع للوحدات الدلالية ،إأنه مؤسس بشكل سابق ولاتقوم هذه الوحدات إلا بتأكيده واثباته . فإذا كانت البنيــات الخطابيــة ، في الروايــات التي تبني عالمها الايديولوجي انطلاقا مــن نمط انتظـــام عناصرها الداخلية ، ”تتحين على ضوء فرضية حول الطوبيك (29) ( Topic ) أو الطوبيكات النصية ” ، (30) فإن الأمر في حالة الروايات التي تشتغل على عقيدة سابقة مختلف حذريا . فإذا كان الطوبيك ، هو فرضية تقيمها الذات المتلقية في أفق تحديد الانتظامات المؤدية إلى خلق انسجام داخلي للنص، فإنه ، في حالتنا ، يصاغ بشكل سابق ، ويشتغل كموجه بدئي ومفروض على القارئ . إنه موجه لأن النص يحدد للقارئ منذ البداية نمط وحدود هذا التحيين ، ومفروض لأن النص يعطى مؤولا من خلال فعل التسنين الأول . وكل فرضية للقراءة لايمكن أن تصاغ إلا انطلاقا مما يوفره النص في حالته الاحتمالية .

وهذا معناه أن الوحدات المبنية على أساس وجود مخزون ثقافي قابل للتحيين في أية لحظة، يخضع لمراقبة صارمة أثناء قيام الخطاب بانتقاء إمكانية دلالية من ضمن الامكانات الدلالية التي تتوفر عليها هذه الوحدات . وهذه المراقبة تشمل مجموع مكونات الكون الدلالي بدءا من اللكسيمات وانتهاء بالتناظرات مرورا بالتشكلات الخطابية ومما يتفرع عنها من مسارات تصويرية .

فإذا كان اللكسيم يمثل أمامنا ” كوحدة مضمونية قارة محددة من خلال وجود نواة دائمة ، ويحتوي في داخله على سلسلة من الامكانات الدلالية التي تتنوع تحققاتها بتنوع السياقات ” (30) فإن الخطاب كأداة تحيينية للكون الدلالي ، في انتقائه لامكانية من ضمن هذه الامكانيات ، يوصد الباب في وجه الامكانيات الأخرى من خلال تقليص حجم السياقات وتعويض هذا التقليص بالاكثار من العناصر التي تتحدد وظيفتها في رد كل الجزئيات ( الوضعيات الإنسانية الموصوفة أو المسرودة ) إلى ما يؤكد الوحدة الدلالية المنتقاة ، وعبرها مايؤكد الكون الدلالي المثمن .

إن هذه الوحدات بحكم طبيعتها ( تعددية الإمكانات ) وطريقة اشتغالها ( التحقق التوزيعي والتحقق الاستبدالي ) تجنح بمجرد انتظامها داخل جزء من أجزاء الخطاب إلى الدخول في علاقة مع وحدات أخرى من نفس الطبيعة ( أو من طبيعة مغايرة ولكنها تملك معها قاسما مشتركا ما ) لتخلق بذلك شبكة من التداخلات الدلالية التي قد تقود إلى نوع من التسيب الدلالي ، إذا لم توضع ضمن إطار يوحد مكوناتها . وهذا الإطار يتجلى في إدخال التناظر (31) الذي يعد ركيزة من ركائز توحيد الكون الخطابي . وبعبارة أخرى تحديد جذر دلالي مشترك يوحد هذه الوحدات ويدرجها ضمن المنظور المتوقع في الاستراتيجية الأولى : أي التسنين الايديولوجي كمادة تغذي شكل التحقق هذا .

ولن نتحدث بطبيعة الحال عن وقع هذه الاستراتيجية على القارئ ( التلقي كإنتاج للمعنى). فإذا كان النص يبنى خطابيا وسرديا وفق استراتيجية تعطي المعنى ممتلئا وقادرا على توليد نفسه بنفسه من خلال مجموع العناصر المسيجة لاية وضعية يتم تحيينها ، فإن دور القارئ هنا محدود ويقتصر على تعيين المعنى وتحديد حجمه .

إلا أن هذا ” الحلم ” ( حلم كل رواية أن تؤول وفق نواياها الخاصة ) يصطدم بطبيعة الكتابة نفسها ، أو ماتسميه Suleiman ب ” ثأر الكتابة ” ، فالخطاب يملك ذاكرة ، والوحدات المخدرة ( بتعبير ايكو ) لاتلغى ولاتموت . إنها تظل في حالة كمون . ” فإذا واصل الخطاب سيره ، فإنه يترك السبيل مليئا بصور العالم التي رفضها . وهذه الصور تستمر في ممارسة حياتها الاحتمالية ، وقابلة للانبعاث مع أدنى جهد للتذكر . ” (32)

ومن هذه الخلاصة بالذات يمكن تصور دراسة تأخذ على عاتقها الكشف عن الخيانة : خيانة النص لنفسه وخيانة الايديولوجيا لنفسها . وتتجلى هذه الخيانة في عدم قدرة الايديولوجيا على استيعاب كل معطيات النسق الدلالي الشامل وصياغتها وفق نسقها الخاص . إن الموضوع يتجاوز العلامة وعملية التمثيل لايمكن أن تكون إلا نسبية . والعلامة لاتقوم إلا بتحديد جزئي للموضوع . وبناء عليه فإن الفعل الواصف ( وكذا الفعل السردي ) انتقائي بطبيعته والعناصر المنفلتة من عملية الوصف هي البياضات التي يلج من خلالها القارئ إلى تحيين مالم تتوقعه الاستراتيجية المولدة . إن التجربة الإنسانية تمثل أمامنا كخليط من الأنساق الثقافية القابلة للتعايش داخل السلوك الواحد ، من هنا فإن لاوعي النص خفي ومستتر ولايكشف عن نفسه إلا داخل سياق محدد. سياق يحميه من كابوس الارغامات الايديولوجية ، لهذا فإنه لاينتعش إلا داخل السياقات الكبرى وغالبا ماتكون هذه السياقات الكبرى مجسدة في الحكاية . فمجرد تصور وضعية انسانية ما والشروع في تسريد عناصرها ، معناه أن قدرة الذات الساردة ستضعف ولن تتمكن من مراقبة كل الجزئيات البسيطة التي تتحقق في أي فعل واصف .

تأسيسا على هذا ، فإن الكشف عن الايديولوجيا يجب الاينطلق مما تطرحه الاستراتيجية المولدة من محاور دلالية كبرى ، بل من هذه الجزئيات . إذ عبر هذه الجزئيات تتسرب أنساق ايديولوجية لم تكن متوقعة في التسنين الأول

ب – الموجهات كارغام سردي : لقد أشرنا في الصفحات السابقة إلى أن النص المبني على نسق ايديولوجي سابق تحكمه غائية صريحة . والغائية هي سلسلة من الارغامات التي تجعل كل العناصر والأساليب المستخدمة في بناء نص ما تسير في اتجاه نقطة ( غاية ) محددة بشكل سابق .فالإرغامات الخطابية المشار إليها ليست سوى نتيجة منطقية لهذه الغائية . ذلك أن التجربة الإنسانية تعاش وتؤول انطلاقا من يقينية تحدد لكل عنصر موقعه داخل النص بشكل سابق . وإذا كنا قد حاولناالإحاطة بالارغامات الخطابية في الصفحات السابقة ، فسنحاول الآن تحديد هذه الارغامات في مستوى السرد .

إذا كان بإمكاننا القول بأن المستوى السردي لايشكل سوى مستوى توسطي بين المحايثة والتجلي ( أي بين المحافل الأولية للمسار التوليدي ، وبين المحافل النهائية لنفس المسار ) ، (33) فإن هذا المستوى هو الذي يمنح – في الحالات العادية – للنص السردي صياغة جديدة واصيلة للقيم المفكر فيها تجريديا ، أي من خلال طابعها المفاهيمي العام ، ذلك أن ما يحدد التلوين الثقافي للقيم هو بالضبط هذه الصياغة .

إلا أن الأمر يتخذ شكلا آخر في الحالة التي نحاول رسم خصائصها. فإذا كانت الغائية المحددة من خلال نسق ايديولوجي سابق عن التمظهر، تقود – أو يجب أن تقود – إلى إعطاء تأويل واحد للقصة ، وهو التأويل الذي يجب أن ينتهي إلى تحديد قاعدة للفعل ( بشكل صريح أو ضمني)،(34) فإنها تفرض سلسلة من الارغامات على مستوى تصور هيكل سردي عام ( أو ترسيمة سردية) يجب أن يتحقق وفق نفس الغائية بشكل يضمن الوصول إلى وحدانية للمعنى . ورغم صعوبة الفصل بين مكونات المستوى الواحد ، فإننا سنحاول مع ذلك النظر إلى هذه الارغامات من زاويتين : زاوية الترسيمة السردية وزاوية بناء الشخصيات ، ونترك للقارئ إمكانية انجاز تركيب للزاويتين معا .

+مستوى الترسيمة السردية

إذا كانت الترسيمة السردية هي صيغة تنظيمية تعبر في العمق عن وجود أشكال كونية منظمة للنشاط الإنساني منظورا إليه من زاوية فعل القص ، فإنها تتحول ، في حالة الروايات التي تشتغل على متناص عقائدي ، إلى أداة ضابطة لتخوم البناء القيمي . إنها تقوم بالحد من أية محاولة تهدف إلى تفجير المعنى وجعله يتجاوز المادة التي تغذيه . وبهذا، فإنها تمثل أمامنا باعتبارها الغطاء الذي يوفره الكون الخطابي : أي الوحدات الدلالية المشتقة عن النسق الايديولوجي .

إن الأمر يتعلق في هذه الحالة بتسنين مزدوج ، فالترسيمة السردية باعتبارها نتاجا لفعالية إنسانية قديمة قدم الإنسانية نفسها (فعل القص ) لايمكن أن تشتغل إلا كنسق يحتوي في داخله على سلسلة من القواعد الضابطة لفعل القص . إلا أن تحققها داخل نص يشتغل على إيديولوجيا جاهزة يضاعف من عملية التسنين هاته . إنه يضيف قواعد جديدة هي الخالقة لخصائص النوع الفرعي ( Sous- genre ) : رواية الأطروحة . وكل نوع فرعي ليس سوى إضافة قواعد جديدة تضمن له القدرة على الانزياح عن النوع الأصل .

وفي هذا الاتجاه إذا كان بإمكاننا اختصار الفعل الإنساني في سلسلة من النشاطات :

– فاعل يقوم بالفعل

– مشجع على الفعل

– معيق للفعل

– باعث على الفعل

– غاية من وراء كل فعل

فإن هذا التوزيع – كيفما كانت طبيعة هذا الفعل ( فردية كانت أم جماعية ) – يخضع لسلسلة من التداخلات ؛ تداخلات على مستوى الخانة الواحدة ( قد يجمع هذا النشاط في خانة واحدة ) ، وتداخلات على مستوى تفاعل الخانات ( تسرب العناصر الثقافية من دائرة إلى دائرة أخرى ) . إن هذه التداخلات تشكل نوعا من الانزياح عن النموذج الأصل ، وتؤدي – تبعا لذلك – إلى خلق تحققات خاصة تميز هذا النص عن ذاك .

وبناء عليه ، إذا كانت الأدوار المنضوية تحت أية خانة ليست معطاة بشكل كلي ونهائي منذ البدايات الأولى للنص : أي انطلاقا مما يوفره الفعل السردي من أحداث ( المزج بين معرفتين : معرفة السارد ومعرفة الشخصيات ) ، فهذا معناه أن فعل القراءة يتوفر على هامش كبير في نحت صورة ( أو صور ) لكل شخصية ليدرجها ضمن هذه الخانة أو تلك ، إلا أن الأمر في حالتنا يتحقق بشكل مغاير . فإذا كان المتناص العقائدي يفترض ( ويقتضي ) ” الوضوح ” في بلورة القيم، فإنه يقوم في نفس الآن بتحديد عوالم مفصولة عن بعضها البعض كنتيجة ” لقرار ” ايديولوجي سابق : عالم الخير من جهة ، وعالم الشر من جهة ثانية . وكل عالم يستوعب داخله – عبر الفعل السردي والفعل الوصفي – سلسلة من القيم التي تشتغل كمدلولات توسطية توصل العالـم المحين بالعالم المحتمل.

تأسيسا على هذا ، فإن الترسيمة السردية تنمذج وفق النموذج الذي توفره الايديولوجيا باعتبارها تأويلا مسبقا للفعل الاجتماعي . وهذا الفعل يعبر عن حالات قيمية إن كانت تتعايش فيما بينها بحكم التجاور الاجتماعي ، فإنها تحمل في داخلها كل إمكانيات الانفصال . وتدخل الايديولوجيا سيكون بهدف تحقيق هذه الغاية . وكنتيجة لذلك فإن مركز التوجيه السردي يشتغل كصوت معبر عن مركزية النسق الايديولوجي ، ويبنى على إثر ذلك كصوت مالك لحقيقة مطلقة ولقيم لايجادل في صحتها أحد .

وهكذا فإن التقليص من حجم التأويل السردي يترافق حدثيا مع الأكثار من الوحدات السردية المؤدية إلى خلق توافق بين صوت السارد (صوت اليقين المعرفي ) ، وبين العالم المحين كوجه يرسم حدثيا ما يعبر عنه السارد ( صوت اليقين المعرفي ) ، وبين العالم المحين كوجه يرسم حدثيا ما يعبر عنه السارد مفاهيميا . فليس غريبا القول أن الوضع العاملي لايتحدد انطلاقا من فعل محقق داخل النص السردي ، بل يتحدد انطلاقا من الرغبة في التعبير عن قيمة لها موقعها داخل النسق الايديولوجي . انه بهذا لايبنى داخل النص بل يعطى جاهزا : إما في حالة كمون أي أن النص لايقوم إلا بالكشف عنه حدثيا من خلال ادراجه ضمن برنامج سردي واضح المعالم والغايات . وإما في حالة تحقق قصوى كتعبير عن اختيار سردي يجعل من ذات ما ذاتا تقوم بدور المنفد . وفي هذه الحالة فإن البرنامج السردي معطى من خلال الدور نفسه ( المناضل يحيل على برنامج للفعل محدد في اللكسيم مناضل ) . وفي كلتا الحالتين ، فإن الفعل السردي لايقوم إلا بملء هذا الوعاء بالعناصر التي تخدم الغاية النهائية المحددة بشكل سابق داخل المتناص العقائدي .

إن هذا التقليص ينتج عنه تقليص آخر . ويتعلق الأمر في هذه الحالة بالمعرفة المنتشرة داخل النص السردي ، فالكون الذي يرسمه صوت السارد كمعرفة تلفظية ( Savoir énonciatif ) يشتغل كأداة رقابــة علــى المعرفة التــي تـروج لهــا الشخصيات كمعرفــــــة ملفوظيــــــــة Savoir énonciatif) ) . وما بين المعرفة الأولى والمعرفة الثانية تنتصب الترسيمة السردية كأداة لخلق نوع من التوازن بين المعرفتين لتصل في النهاية إما إلى خلق تطابق بينهما في حالةتحرك الفعل السردي داخل نفس الدائرة القيمية . وإما إلى إلغاء المعرفة الملفوظية لصالح المعرفة التلفظية في حالة تحرك الفعل السردي ضمن دائرة قيمية موضوعة للرفض .

+ مستوى بناء الشخصيات :

لقد أكدنا في حديثنا عن الترسيمة السردية ، أن المستوى السردي لايشكل سوى مستوى توسطي بين المحايثة والتجلي ، أي التوسط بين الحد المفاهيمي وبين الحد المشخص . إن هذا التأكيد سيقودنا إلى الاعتراف أيضا بأن السردية ، وفق هذه النظرة ، منظمة بشكل سابق عن تجليها داخل مادة معينة ( سواء كانت لسانية أو غير لسانية ) . وهي طريقة أخرى للقول إن الحد المشخص يعيد تمثيل ماطرح بشكل تجريدي في صيغ تشخيصية تطرح للتداول سلسلة من القيم داخل مجموعة من الوضعيات القابلة للمعاينة والوصف .

تأسيسا على هذا ، فإن تسريد البنية المفاهيمية يفترض ادخال النشاط الانساني المحسوس والمدرك كوقائع ( مادام الفكر المجرد لا يشتغل كحادثة ) . وهذا النشاط الانساني يتحدد من خلال وجود محافل قابلة لاستيعاب هذه الوحدات المجردة . وهكذا يمكن الحديث عن الشخصية باعتبارها قطبا تلتف حوله ، وتتبلور انطلاقا منه مجموعة من القيم الدلالية لتشكلها ككيان وتتشكل عبرها كبنية دلالية كبرى تعود بنا من جديد إلى ماتم تسنينه من خلال فعل إنساني سابق .

فإذا كان المضمون الحقيقي للشخصية لايتحدد داخل فعل التسنين (كشكل من أشكال النمذجة السلوكية ) ، بل يتحدد داخل فعل التحيين (الكون النصي بكل عناصره ) ، فإن الأمر يختلف مع الروايات القائمة على تسنين القيم داخل نسق ايديولوجي سابق عن وجود النص . فالوجه المحين يجب أن يكون صورة مطابقة بشكل كلي للصورة السلوكية المشتقة من النموذج الايديولوجي .

وهكذا عوض أن تشتغل الشخصية كاسقاط لصورة سلوكية تتغذى بكل التناقضات الناتجة عن وجود انساق فكرية متناحرة ومتداخلة ، فإنها تتحول إلى قيمة محددة بشكل سابق داخل نسق يشتغل في انفصال عن الانساق الأخرى ، لأنه يضع نفسه كبديل اقصائي لكل الانساق الأخرى . وكنتيجة لذلك ، فإن المادة المضمونية التي يتولد عنها النص لاتغنى ولا تعدل ، بل تتحول إلى قاعدة صارمة لمراقبة عملية بناء الشخصيات . فمن جهة نعاين وجود تطابق بين الفعل الوصفي والفعل الحدثي . ان المواصفة تعطى مؤولة وتتطابق مع الحدث . والحدث لن يكون شيئا آخر سوى وجه مفصل للمواصفة . ومن جهة ثانية فإن البناء الذي تخضع له هذه الشخصيات بناء قائم على تعريف ايديولوجي للشخصيات . والتعريف الايديولوجي معناه اسناد سلسلة من المواصفات المحددة داخل الايديولوجيا ، إلى كائن يجب أن يشتغل كوعاء تشخيصي للمواصفة كما هي مثبتة داخل الجهازالايديولوجي ، ومن جهة ثالثة ، وكنتيجة لما سبق ، يتم الخلط بين القيم المرذولة ثقافيا (وحضاريا) وبين القيم التي لاتكتسب كافة أبعادها إلا داخل موقع ايديولوجي معين .(35) بل قد يصل الأمر إلى الخلط بين الشكل الفزيولوجي لشخصية ما وبين القيم التي تصدر عنها .

إن الأمر ، وفق هذا النمط من البناء ، يتعلق بتثمين النسق الايديولوجي والحرص على نقائه وتقليص حجم التناقضات الخالقة لغنى الحياة وثرائها . فالقيم الصادرة عن شخصية ما يجب أن تكون في كليتها تعبيرا عن طبقة ( الماركسية مثلا ) أو قيم فئة كافرة ( دين ما ) . وكل القيم الأخرى التي لاموقع لها داخل هذا النسق يجب أن تلغى وصفيا وحدثيا .

* * *

لقد حاولنا في الصفحات السابقة أن نناقش من جهة فعل التسنين الذي يخضع له كل نشاط إنساني ، وحاولنا ، من جهة ثانية ، أن نرسم الحدود الشكلية للنصوص التي تشتغل على الايديولوجيا كتسنين داخل تسنين ( ماسميناه بالتسنين المزدوج ) . كما ناقشنا كيف يتحول هذا الجهاز إلى سلسلة من الارغامات سواء على مستوى الخطاب ( بناء الوحدات الدلالية الصغرى في علاقتها بالجهاز الايديولوجي ككل ) ، أو على مستوى السرد ( حيث أن الأداة الايديولوجية ترسم للخطاطة السردية حدودها بشكل سابق ) ، وكخلاصة يمكن القول ” إن كل صراع ايديولوجي داخل النص يحل من خلال نسق سردي كبير هو نفسه من طبيعة ايديولوجية يقوم ويحكم على الايديولوجيات المتصارعة . ” (36)

———————————————-

الهوامش

1) – Chabrol ( Claude ) Etudes sur le fonctionnement de codes specifiques .Centre de recherche de documentation pédagogique , pp. 7 – 8 .

2) انظر – Peirce (C.S ) , Ecrits sur le signe, Seuil , Paris, 1978 .

3) – Eco (Umberto ) Le Signe , Ed . Labor, Bruxelles 1988 , p , 152 .

4) نفسه ، ص : 153 .

5) Krysinski (Vladimir) Carrefours des signes:essais sur le roman moderne,ed.Mouton,1981,p.32 .

6) يعرف امبرتو ايكو عالم الممكنات بقوله : ” إن العالم الممكن هو حالة أشياء معبر عنها من خلال مجموعة من القضايا حيث إن كل قضية هي إما “أ “وإما لا “أ ” انظر :Lector in Fabula , p . 168 . 7) – Eco , Lector in Fabula , p . 172 .

8) انظر – SAPIR ( Edward ) , Le langage

9) – Kibedi – Varga (A) , Discours récit et image , Ed Mardaga , p. 7 .

10) المرجع السابق ، ص : 160 – 161 – Eco

11) يعرف كريماص الاكسيولوجيا بقوله : ” نعني بالاكسيولوجيا عامة نظرية أو وصف انساق القيم ( سواء كانت اخلاقية أو منطقية أو جمالية )” انظر : Dictionnaire Article Axiologie

12) ” Greimas- Courtes : Dictionnaire ” axiologie et Ideologie .

13) انظر Eco : le signe

14) المرجع السابق – GREIMAS – Courtes

15) Gross:Prédication carcérale et structures de textes in Littérature n! 36, p. 61.

16) نفسه ، ص : 62

17) نفسه ، ص : 35 – Krysinsky

18) انطر – Eco : Le signe , p : 131 – 132

19) نفسه ، ص : 131 .

20) انظر في هذا الصدد : – Suleiman : Le Roman à thèse . – Robin Régine : Le realisme socialiste : une esthétique impossible .

21) انظر – Suleiman : Le Roman à thèse , p : 79

22) تتحدد السميوزيس كسيرورة تجمع بين ما ثول وموضوع ومؤول ، انها مسار انتاج دلالة ما عند پورس .

23) الترسيمة العاملية ( schéma actantiel ) . هي نموذج من العلاقات المحددة في ست خانات: مرسل ومرسل إليه ، وذات وموضوع ومعيق ومساعد ، ويرى كريماص أن هذه الترسيمة قادرة على اختصار وتكثيف الفعل الانساني في الاقطاب المذكورة اعلاه .

24) ان المسار التوليدي parcours génératif هو المسار الذي يقود من العناصر الأكثر تجريدية الى العناصر الأكثر محسوسية : مثال اعطاء بعد مشخص ( قصة ) لقيم ذات مضمون تجريدي .

25) ان النموذج التكويني يتحدد من خلال وجود محور دلالي مثل حرية (م) عبودية ، وكل حد قابل لاسقاط حد مناقض له حرية (م) لاحرية ، وعبودية (م) لاعبودية . ويعتبر النموذج التكويني في تصور كريماص كتنظيم أولي للسردية .

26 ) انظر كريماص خاصة مقالته .( باشتراك مع F. Rastier ) Les jeux des contraintes sémiotiques : In Du Sens

27) المرجع السابق – Suleiman , p : 7

28) نفسه ، ص : 178 .

29) ان الطوبيك هو فرضية تستخدم من أجل تحديد وجهة التحيينات ” ص : 115 – Eco : Lector in Fabula

30) – Eco : Lector in Fabula , p : 113

31) Greimas:LEs actants, les acteurs, et les figures,in sémiotique narrative et textuelle, p. 170 .

32) ان التناظر ( Isotopie ) ” هو مجموع متواتر من المقولات الدلالية التي تسمح بتحديد قراءة وحيدة للحكاية ” انظر .

– GREIMAS : Du Sens , p : 188 .

33) – GREIMAS Courtes : Dictionnaire Article : Parcours génératif .

34) – Suleiman : Le Roman à thèse , p : 70 .

35) – Robin ( Régine ) : Le réalisme socialiste : une esthétique impossible ,p : 278 .

36) المرجع السابق ، ص : 88 . – Suleiman