سعيد بنگراد
إن الحديث عن أي تصور نظري خارج حدود “مصطلحية” خاصة به حديث لا معنى له. فالوجه المرئي لكل نظرية يمثله سجل اصطلاحي يرسم لهذه النظرية حدودها وامتداداتها في غيرها من النظريات، وأي إخلال بهذا السجل هو إخلال بالنظرية وبنائها ذاته. فليس المصطلح، بقضاياه المتنوعة، سوى طريقة في تنظيم التجربة العلمية والتعبير عنها خارج الإكراهات التي يفرضها الاستعمال العادي للغة.
وبما أن الأمر لا يتعلق بصياغة مصطلحات تغطي نشاطا معرفيا يتم داخل لغتنا بقوانينها في التقطيع والمفهمة والتركيب، بل هو أمر خاص بتوفير الشروط الأساسية لتلقي ونقل وتعريب مصطلحات وافدة إلينا عبر لغات أجنبية، فإن كل الأسئلة التي يثيرها هذا المصطلح ستأخذ أبعادا معرفية لها علاقة بتنوع الحاجات الإنسانية وطرق صياغتها والتعبير عنها. فما سننقله إلى لغتنا ليس دلائل لغوية عارية ومفصولة عن أي سياق معرفي، بل هي كيانات تأتينا محملة بتاريخها ورؤاها وأشكالها في الوجود والاشتغال. ولهذا السبب، فإن تدبير أمور المصطلح ليس شأنا تقنيا يتكفل به مترجمون متمرسون يجيدون اللغات، بل هو شأن معرفي يتكفل به المختصون في شتى فروع المعرفة.
لهذا السبب نرى في قضايا المصطلح الخاص بالعلوم الإنسانية جزءا من القضايا التي تعود إلى نمط تغطية الحاجات الإنسانية ذاتها. فكل تفاوت في عجلة التطور التاريخي بين الشعوب سيتولد عنه حتما تفاوت في نمو الحاجات وتنوعها، وهو تفاوت سيشمل بالضرورة طرق التعبير عن هذه الحاجات. ولا نقصد بالتفاوت هنا ما يحيل على الآلة العسكرية والصناعية والتكنولوجية فحسب، بل نقصد به أيضا ما يحيل على الوجدان والبنية الذهنية والتركيبة النفسية. فهذا التفاوت في النمو ينتج عنه اختلال في التطابقات التعبيرية الممكنة بين الألسنة.
وهذا أمر في غاية الوضوح، فالممارسة الإنسانية، بحكم تنوعها وتعددها، تقتضي تنويع المنافذ التي تُسرب عبرها الأشكال الخاصة بإرضاء هذه الحاجات. وبما أن التعبير عن هذه الحاجات هو تعبير يتم من خلال اللغة وداخلها، فإن الصياغة المفهومية لهذه الحاجات ستكون بالغة التباين والاختلاف. فمفاهيم مثل “السعادة “و”الرغبة” و”الوحدة” و”العدد” و”الكثرة” و”الزمن” و”الفضاء” … الخ، مفاهيم محكومة، في وجودها وأشكال تحققها، بمجموعة من المتغيرات التي يعود بعضها إلى دائرة المفهمة ذاتها، ومنها ما يعود إلى المتغيرات الثقافية بتمييزاتها الجغرافية والمناخية والعقائدية، ومنها ما هو مرتبط بالأساس اللغوي ذاته، أي ما يتعلق بالوحدات المعجمية ووجهها التركيبي. والأمر ليس مختلفا في حالة التسمية والتعريف أيضا.
فرغم كل ما يمكن أن يقال عن “الكليات ” Universaux ( العناصر الموحدة للجنس البشري ) وقدرتها على ضمان حد أدنى من التواصل بين مجموع الكائنات البشرية، فإن المضامين التي تعد اللغة سندها الرئيس لن تدرك إلا باعتبارها نتاجا لثقافة ما. من هنا، فإن تجاهل هذه المتغيرات هو تجاهل للفروق الأساسية بين الثقافات. وهذا أمر بالغ الخطورة في حالة المصطلح. ذلك أن الاكتفاء بالمعادل اللغوي ( إذا توفر ) وإهمال الجانب المعرفي الذي يسنده، سيلحق ضررا كبيرا بالفكر وبطرق التفكير. وفي جميع الحالات لا فائدة تذكر من مصطلح جامد لا روح ولا تاريخ له.
استنادا إلى هذا، فإن أي نقل أو استيراد للمصطلح عبر النحت أو التعريب أو أي سبيل آخر يقتضي، في المقام الأول، إدراك الفروقات الموجودة بين اللغات في طرق بنائها لموضوعها وصياغتها لدلالاته. فالممارسة في ميدان الترجمة تدلنا على أننا لا ننتقل من دال أصل إلى دال آخر ينتمي إلى لغة هدف، بل ننتقل من حقل ثقافي له تقطيعه المفهومي الخاص، إلى حقل ثقافي آخر لا يملك بالضرورة نفس التقطيع. فنحن في واقع الأمر لا نتحدث عن ألفاظ ولا عن مركبات لغوية جاهزة، بل نتحدث عن تصورات نظرية يُعبر عنها من خلال لغات لها حقل مفهومي إليه تستند من أجل إنتاج مضامينها الاجتماعية والنفسية والعلمية. ويفتخر الفرنسيون مثلا أنهم يمتلكون كلمتين langue و langage للتعبير عن فعاليتين مختلفتين : ما يعود إلى الفعالية التي تشير إلى القدرة التواصلية التي يمتلكها الإنسان، وبين اللسان، الذي يعتبر نسقا من العلامات، وهو ما تتوفر عليه العربية أيضا، فهي تميز من جهتها بين اللغة واللسان. في حين لا نعثر في الانجليزية والألمانية سوى على كلمة واحدة هي Language في الأولى وsprache في الثانية (1).
وليس من باب الترف أن نقول إن التواصل بين الشعوب يتم عبر إدراك حقيقي للحقول الثقافية التي تنبثق منها المفاهيم، لا عبر معرفة الدوال المعزولة. فاللغات تمتلك طريقتها الخاصة في صياغة ما تنتجه التجربة الإنسانية بكل أبعادها، وهو ما يعني وجود أسلوب خاص في المفهمة وتقطيع المدرك الذي ينتمي إلى التجربة المحسوسة.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن القبول بعلوم الآخر لا يعني قبولا بمصطلحاته ومفاهيمه فحسب، بل هو أساسا قبول بطريقته في تقطيع المعطى الطبيعي والثقافي والاجتماعي. وهذا يعني أن هناك أسلوبا خاصا في المفهمة ( خلق المفاهيم وتداولها ) وتقطيع المدرك الذي ينتمي إلى التجربة المحسوسة، أي ما يحيط بالإنسان وما يجربه وما يتداوله. فالشمس ليست شمسا في السماء فحسب، إنها كذلك أيضا في اللغة والمتخيل والمعتقد الديني.
وبناء على هذا، فإن المفهوم ليس صيغة تجريدية نستعيض بها أو نتصور بها المحسوس فحسب، بل هو طريقة في شكلنة المعطى المحسوس وصياغة حدوده. وبعبارة أخرى، فإن المفاهيم >هي منشآت تنشئها عمليات المعرفة التي يتمتع بها الإنسان، وهي عمليات تساعد على تصنيف الأشياء عن طريق التجريد المنظم أو الاعتباطي<. (2) فداخل المفهوم ومن خلاله تنظم التجربة الإنسانية وتنقل، وتعمم الذاكرات وتتوحد. فالمفهوم أداة للتوسط > وعوض أن تفصل بيننا وبين العالم، فإنه يصبح الوسيلة الوحيدة للولوج إليه<.(3)
وإلى هذا التصور تستند العلوم – والمقصود هنا علوم الإنسان- من خلال موضوعها وأدواتها، من أجل الكشف عن عمق وجوهر الممارسة الإنسانية وتحديدَ سلسلة العلاقات والروابط الممكنة داخلها.
لذا، فإن كل تصور نظري ليس سوى محاولة لتوسيع دائرة الإنساني من خلال الكشف عن مناطق جديدة داخله. والكشف عن هذه المناطق يقتضي تغطية لغوية تجرد هذه المناطق من أجل التعميم، فخارج هذه التغطية اللغوية لا يمكن لأي شيء أن يوجد.
استنادا إلى هذه الملاحظات، يمكن القول إن القضايا التي يثيرها المصطلح، قضايا لا تخص الدوال اللغوية فحسب، بل تعود أيضا وأساسا إلى الأصول المعرفية الذي تسند المصطلح وتحدد هويته ومردوديته التحليلية في تربته القديمة والجديدة على حد سواء.
والخلاصة أن كل مصطلح لا يدرك إلا من خلال موقعه داخل تصور نظري يمنحه مشروعية الوجود والاشتغال. فنقل المصطلح هو نقل لهذا التصور وليس إعطاء مقابل عربي لمفردة أجنبية.
وقد لا يكون الأمر بكل هذه الحدة في العلوم الطبيعية بحكم الحياد النسبي والطابع الصوري للغة الواصفة وبحكم دقة الموضوع المدروس، وبحكم أن موضوع العلوم الإنسانية، على خلاف العلوم الطبيعية ، هو ما ينتمي إلى البعد الرمزي. إلا أنه يتخذ أبعادا بالغة التنوع عندما يتعلق الأمر بميدان شائك كميدان المعنى بأبعاده في البناء والتداول. فالمصطلح الواحد قد يدل على أشياء مختلفة قد تكون أحيانا متناقضة، وذلك حسب انتمائه إلى هذا التصور النظري أو ذاك.
ولن يكون المصطلح، وفق هذا التحديد، سوى الصيغة الأولية المؤدية إلى تحديد هذا المعنى والكشف عن حجمه. لذا فإن وجود تصور مسبق عن المعنى، أمر في غاية الأهمية. فما يحدد استقبالا أوجه التأويل هو صيغة السؤال الذي تتبناه الذات القارئة لتكشف عن المسارات التأويلية – كلها أو بعضها- التي يشير إليها النص الموضوع للتداول. وما نقصده بالتصور المسبق ليس إسقاطا لمصطلحات جاهزة على نص هو عصي بطبعه على الضبط، بل فرضية للقراءة، الغاية منها إيجاد تنظيم جديد للنص.
ولعل هذا ما يشكل الأساس الحقيقي في نقل المصطلح وتداوله. فكل الصيغ التي نستعين بها في ” فهم” و” تذوق” و” تأويل” نص ما ( واقعة ما ) تستند إلى سؤال معرفي يتخذ وجها مرئيا من خلال مصطلح ينوب عن تفاصيل النظرية وتشعبها.
والخلاصة أنه إذا كان كل مفهوم جزءا من قضية أو هو جزء من قضايا، وبدون هذه القضايا لا يمكن أن يكون لهذا المفهوم أي معنى،(4) فإن المصطلح، الذي يعد وليدا لهذا المفهوم، لا يمكن أن يكون سوى سؤال معرفي، أو وجه لقضية. وبعبارة أخرى فإن انسجام نظرية ما مرتبط بقدرتها على المثول أمامنا على شكل لغة صورية شكلية، أي باعتبارها سلسلة من المصطلحات.
وستكون هذه الخلاصة هي مدخلنا نحو معالجة الجزء الثاني من مقالنا.
المصطلح : من الأصل إلى الامتداد
استنادا إلى هذه الملاحظات سنقدم بعض النماذج الخاصة بالاستعمال “المحلي” لبعض المصطلحات التي تصنف داخل المجال السميائي عامة والسردي خاصة. وسنحاول، من خلال هذه النماذج، تبيان الطريقة التي يتم بها تداول هذه المصطلحات في بعض الكتابات النقدية وكيف يتم استعمالها والاشتغال بها. ولن نجانب الصاب إذا قلنا إن هذا التداول يكشف عن الكثير من القصور في فهم أبعاد هذه المصطلحات وامتداداتها، وهو ما يجعل منها، في أحيان كثيرة، كيانات بلا ذاكرة ولا تاريخ ولا مردودية.
وفي هذا المجال تمثل السميائيات السردية نموذجا بالغ الدلالة. فهي تحضر عند الكثيرين ممن يشتغلون بالنص السردي في بلادنا وخارجها باعتبارها مجموعة من المصطلحات المرتبطة بأجزاء نصية خاصة، أي مجرد وصف لبنيات سردية قابلة للتحديد من خلال مصطلحات/ تسميات تسعف المحلل في التعرف على وحدات النص ومكوناته.
واستنادا إلى المخزون المصطلحي الذي تتوفر عليه هذه النظرية، سيصبح “من السهل” على أي دارس أن يعين في النص مواقع تخص “الذي يسرد” و”الذي يستمع” والذي “يفعل شيئا ما”، كما يمكنه أن يميز بين أصناف زمانية وأخرى فضائية وعناصر أخرى مما يشكل مجمل مكونات النص السردي. ولن يكون عسيرا على هذا الدارس أن يعثر في اللغة العربية على مقابلات لهذه المصطلحات. فالأمر بسيط، أو يبدو كذلك خلال التعابير اللغويةالمباشرة ، أي الألفاظ المنتمية إلى الاستعمال العادي للسان. فكل كلمة أجنبية توحي” بما يقابلها في العربية : الذات والموضوع والمرسل والمرسل إليه والمعيق والإنجاز والأهلية الجزاء… الخ وكلها مصطلحات تحيل على مكونات نصية تشترك فيها كل النصوص.
إلا أن التعرف على هذه المكونات من خلال ما يحيل عليها من مصطلحات لا يفيد في شيء في غياب تصور نظري حول المعنى وأشكال تجسده في النص. فنادرا ما كانت هذه المصطلحات تقود إلى إنتاج معرفة خاصة بالنص، بل يمكن القول إنها كانت، في حالات كثيرة، وبالا على النص السردي وما سواه من النصوص. فغالبا ما يحتمي المحلل بالمصطلحات سترا لجهله بالنص ومتاهاته.
إن السميائيات، وغيرها من النظريات المنتمية إلى التحليل الأدبي، هي في المقام الأول نظرية في المعنى، أو هي صيغة خاصة في تناول المعنى ومعالجة أشكال تجلياته. وهي، استنادا إلى ذلك، طريقة في تحديد السبل المؤدية إلى إنتاج الدلالات وتداولها. إن غياب الوعي بهذه الحقيقة أضاع المضمون المعرفي لهذه المصطلحات في رحلتها من أصلها المولد إلى تربة الاستقبال، وانتهى بنا الأمر إلى تقديم مجموعة من الدراسات ذات الطابع التقني التي لا تعرفنا بالنص ولا تزيدنا معرفة بأنفسنا. فالمصطلحات وحدها، في غياب أساس معرفي يسندها، كيانات خرساء بلا ذاكرة ولا تاريخ ولا امتداد، ولن يكون النص تبعا لذك مجرد أجزاء مفصولة عن بعضها البعض، كما لن يكون كيانا مفصولا عما يحيط به من النصوص.
واقع الحال هذا ولد حالة مرضية ساد الاعتقاد معها أن بإمكان المحلل المسلح بـ”الأدوات الصحيحة” الكشف عن خبايا النص وأسراره اعتمادا فقط على مصطلحات جاهزة ومصوغة بشكل دقيق. وهكذا تشابهت النصوص وتشابه المحللون ولم نعد قادرين على التمييز بين النصوص الجيدة والنصوص الردئية.
والحال أن اللغة التقنية لا يمكن أن تكون بديلا عن المعرفة التي يجب أن يتوفر عليها كل محلل، فما يميز بين هذا المحلل أو ذاك هو هذه المعرفة وليس مصطلحات لا تسمن ولا تغني من جوع. فقراءة نص ما لا تحتاج إلى أدوات تقنية فحسب، بل تستدعي، كشرط لكل تحليل جيد، معرفة تسمح للمحلل بتحديد ما لا يراه غيره من غيرالمختصين. فالرؤية التحليلية المستندة إلى هذه المعرفة لن ترى في النص مجرد وصف سطحي لعلاقات إنسانية من السهل إدراكها، بل يمثل عندها إنتاجا معرفيا قائما بذاته.
وهذا ما سيظهر جليا بعد سنوات قليلة على بداية تجريبنا لهذه الأدوات. فعندما استنفدت هذه المستويات كامل طاقاتها وأصبحت غير مقنعة وغير قادرة على إضافة أي شيء للنصوص، مادامت لا تسعف المحلل، في حقيقة الأمر، على السير بعيدا في التحليل، انصرف عنها النقاد ولم يعد أحد يعيرها اهتماما. وهكذا سقطت هذه النظرية قبل أن تُعرف وقبل أن يدرك الناس عمقها الحقيقي.
بل وصل الأمر إلى أبعد من ذلك. فمجموعة من الحدود التي عرفت طريقها إلى الاستعمال العربي وتداولها النقاد والمهتمون بالنص السردي لم يُكشف أبدا عن مضمونها الحقيقي، وظلت غامضة ، في الاستعمال والتداول، وقد تختفي من الوجود قبل أن يدرك أحد أصولها وامتداداتها.
ففي غالب الأحيان كان يتم تجنب الإشارة إلى الأصول المعرفية لهذه النظرية – ربما لصعوبتها – ويتم الاكتفاء بتقديم ملخصات تشرح مصطلحات معزولة لا يمكن أن تؤدي في حال تطبيقها على نص ما إلا إلى إفقار هذا النص وتقزيمه. ولهذا يمكن القول إن هذه النظريات، بهذا النمط في التعامل والفهم، تسيء إلى النص أكثر مما تساهم في تحليله.
وبما أننا لا نستطيع تقديم عرض واف لكل المصطلحات التي يتوفر عليها هذا التصور، فإننا سنكتفي بالإحالة على مفهوم واحد، ميزته أنه يحيل على مجموعة من المصطلحات المترابطة فيما بينها وهو دليل آخر على تماسك التصورات النظرية من خلال مفاهيمها. إن الأمر يتعلق بمفهوم ” السردية ” narrativité * الذي عرف انتشارا كبيرا وتم تداوله بشكل كبير في الثمانينان والتسعينات من القرن العشرين. فما فحوى هذا المفهوم وما تاريخه وموقعه من مفاهيم تنتمي إلى نفس الفصيلة أو إلى فصائل أخرى؟
يرتبط مفهوم السردية narrativité في التداول الشائع بإحالته على جملة من الخصائص التي تجعل من خطاب ما خطابا سرديا، تماما كما أن هناك خصائص تحيل على الخطاب الشعري وأخرى على الخطاب المسرحي أو السينمائي أو التشكيلي…الخ. ولئن كان هذا التعريف لا يجانب الصواب في معناه العام والشائع، فإنه ليس كذلك عندما نربطه بالنظرية التي أنتجته وألقت به للتداول. ذلك أن الأبعاد الحقيقية لهذا المفهوم توجد في مستوى آخر، ولن تتضح إلا عندما نربطه بتربته الأصلية، أي بمجموعة من المفاهيم المحيطة التي تعد أساس وجوده وبدونها لن يكون له أي معنى.
استناد إلى هذا يمكن القول إن المضمون الحقيقي لهذا المفهوم ليس مرتبطا بمادة قصصية قابلة للسرد، كما لا يحيل على التحديد المباشر لعالم مشخص تتحرك داخله كائنات، كما قد يوحي بذلك الاستعمال القصصي في التدليل أو التوضيح أو شرح المفاهيم المجردة، وإنما له صلة بعالم القيم الإنسانية وأشكال وجودها. فهو المصفاة التي تنتقل من خلالها القيم من وضع مجرد إلى وضع محسوس.
وبعبارة أخرى، فإن الأمر يتعلق بالتصور الذي نملكه عن الدلالة وأنماط وجودها. فنحن لا نعرف جواهر الدلالة، بل نعرف أشكالها، وما يتحكم في ظهورها واستهلاكها ليس إمساكا حدسيا بل وجود علاقات عبرها تتبدى المضامين وتنتشر وتحيا وتغتني. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن الشرط المباشر للإمساك بالمعنى هو مفصلته في وحدات مرئية والمفصلة هي الشرط الأساس لوجود أي معنى، بل لوجود أي شيء.
بناء على هذا يجب نبذ التصور التقليدي الذي يرى في ” السردي” مجرد وجه مشخص للكون الإنساني، أي يتصوره باعتباره مجموعة من الأحداث هي أساس البناء القصصي ومبرر وجوده. وعوض ذلك يجب، من أجل فهم أفضل لهذا لمفهوم، تبني تصور يرى في “السردية” كيانا مرتبطا بأنماط وجود القيم وأشكال تداولها.
فوفق هذا التصور، بالإمكان تلمس التباشير الأولى للفعل السردي لا في التحقق النصي ، بل ضمن حدود مجردة لا تشير إلا إلى علاقات بين حدود تشكل بنية دلالية أولية أو محورا دلاليا من نوع :
الفرح (م) الحزن
الخير (م) الشر
فهذه العلاقة، وهي علاقة لا ترتبط بأي سياق كيفما كان، تحتوي في داخلها على “إمكانية الفعل”، وهي بذلك قابلة لتوليد سلسلة لا متناهية من الحكايات. ولهذا، فإن كل قيمة من هذه القيم لا يمكن أن توجد خارج مدار الفعل الإنساني الذي ” يخصص” و” ينوع” و”يوسع” من دائرة المفهوم المرتبط به.
وهذا أمر في غاية الوضوح، فالأصل في الفعل الإنساني هوالتشخيص، أي الفعل المتحقق في الواقع، فكل قيمة تمتلك، بحكم منطق التمثيل، وجها مشخصا، بل يمكن القول إنه ليس بمقدورنا تصور أية قيمة خارج سلوك إنساني محسوس.
ولهذا السبب، فإن الحدود المجردة تملك، بشكل ضمني، القدرة على التحول من العلاقات إلى العمليات بفعل الطابع الموجه للعلاقات التي تربط بينها. ذلك أن نصا سرديا يتحدث عن الحزن ، لا يمكنه أن يتغاضى عن إمكانية التحول إلى الفرح، كما لا يمكن لفعل إنساني يحمل الشر في طياته ألا يشير إلى الخير، فمبرر الحديث عن الحزن والشر هو الفرح والخير.
لذا فإن الحزن ليس مضمونا فكريا يحيل على كون مكتف بذاته، ذلك أن محاولة لتحديد مضمون مطلق منظور إليه في ذاته ومفصول عن كل المضامين الأخرى محاولة ليس لها أي معنى. فالحزن هو كذلك في حدود ارتباطه بما ليس هو، أي بكل ما يمكن أن يحيل علىه من قيم مضادة كالفرح أو السرور، أو على قيم من نفس الحقل كالغم والهم والكمد الخ. والخلاصة أن الحزن، حد من حدود مقولة تامة تحيل على كون لا على حد معزول.
ضمن هذا السياق تشير السردية إلى المبدإ المحايث المنظم لمجمل الخطابات السردية منها وغيرالسردية. ولا علاقة لها، في هذه الحالة، بالمضمون القصصي، كما يظهر ذلك من خلال التجلي النصي، والمقصود بالتجلي النصي هنا هو ذلك التحقق المشخص للحدود القيمية الضمنية ( عوض أن نشرح معنى الحزن نقدم قصة تروي وقائع تجسد الحزن). فالسردية في هذه الحالة ليست سوى صيغة نستعيد من خلالها ما تم تكثيفه على شكل قيم مجردة انطلاقا من فعل إنساني محسوس. وهكذا، يمكن القول، إن كل قيمة، كيفما كان مستواها التجريدي، تعود إلى أصل مشخص.
فماذا تعني المحايثة immanence في هذه الحالة ؟
استنادا إلى الملاحظة السابقة يمكن القول إن السردية ارتبطت ارتباطا وثيقا بمفهوم المحايثة. وهنا أيضا لا نعدم وجود استعمالات غير دقيقة لهذا المفهوم، ولقد ترجم إلى العربية ليدل على أشياء بعينها ( الدراسة التي تكتفي بما يقدمه النص )، إلا أننا نادرا ما نعثر على إحالة صريحة على أبعاده الفلسفية. فلقد استعمل غالبا ليدل على مستوى من مستويات الوجود النصي ونقصد به “المستوى العميق”، رغم ما يوجد بين المصطلحين من اختلاف. وكما سنرى ذلك لاحقا، فإن هذه الأبعاد الفلسفية بالغة الأهمية عندما يتعلق الأمر بتحديد المضمون الحقيقي للسيرورة التأويلية.
صحيح أننا قد نقبل باستخدام استعاري يجعل من المحايثة، ضمن الصيغة المعروفة “التحليل المحايث “، ما يدل على العناصر الأولية للنص، ما دام الأمر يستند إلى عناصر داخل هذا المفهوم قد تدل، ضمن سياقات بعينها، على الاكتفاء بماهو معطى بشكل أولي. فالمحايثة قد تشير إلى إمكانية اكتفاء النص بذاته، أي امتلاكه لمعانيه بشكل سابق على تدخل القارئ. ومع ذلك فإن جوهر المفهوم سيظل شيئا آخر.
فالمحايثة، استنادا إلى ما يقوله أندري لالاند في قاموسه *، تشير إلى ما هو سابق على أي نسق وعلى أي تصنيف مسبق، فهي نقيض العرضي والزائل والبراني، ويورد تصورا لموريس بلونديل الذي ينظر إلى المحايثة من زاويتين : ” زاوية أولى تتميز بالسكونية، وفي هذه الحالة، تشير المحايثة إلى كل ما هو موجود في كيان ما بشكل ثابت وقار؛ وتشير من الزاوية الديناميكية، إلى كل ما يصدر عن كائن ما تعبيرا عن طبيعته الأصلية”. فما هو محايث لكائن أو لمجموعة من الكائنات يعود إلى كل ما هو موجود داخل هذه الكائنات بشكل طبيعي وليس حصيلة لشيء يوجد خارجها.
وبطبيعة الحال، فإن گريماص، وهو أول من تنبه إلى إمكانية البحث عن الجذور الأولى للسردية في مستوى سابق على أي تجلي نصي، لا يأخذ من هذا المفهوم أبعاده الميتافيزيقية التي قد تحيل على إمكانية وجود أفكار سابقة على الفعل البشري، فهو لا يعتقد في وجود مضامين خارج التجربة الإنسانية، إلا أنه يفترض ( فرضية للعمل فقط) وجود سقف قيمي يستند إليه النص من أجل إنتاج خصوصيات مضمونه، والأمر يتعلق بالحديث عن كون دلالي صغير يوجد خارج أي سياق ( ما أشرنا إليه من قبل : حزن (م) فرح).
إلى هذا الأساس الفلسفي استندت السميائيات السردية في تحديدها ميكانيزماتها الخاصة بوجود الدلالة وأنماط ظهورها واشتغالها. ولن نذيع سرا إذا قلنا إن “السديمي” و”الهلامي” و”العديم الشكل” لا ينتج دلالة ولا يمكن أن نحصل من خلاله على معنى. فبدون مفصلة المتصل ( continu ) لا يمكن إنتاج معنى. فالمعنى لا يمكن ضبط حدوده وتحديد حجمه إلا من خلال هذه المفصلة، والمفصلة هي الشرط الأولي الذي “يجعل من المعنى قادرا على التدليل ” على حد تعبير گريماص.
وهذا الأمر ليس ممكنا إلا إذا نحن تصورنا إمكانية تحريك العلاقات ( ما يربط بين الحدود المشكلة للمحور الدلالي) وتفجيرها ومنحها وجوها مشخصة. والمقصود بالتفجير هنا صب القيم المجردة في مواد محسوسة. والمواد المحسوسة هي مجمل الأكوان الإنسانية التي يمكن تصورها انطلاقا من هذه القيم المجردة. وبعبارة أخرى، فإننا سنتحدث عن هذه القيم من خلال “حكايات ” تجسدها في نسخ وتمنحها سياقات ومقامات خاصة.
وعلى هذا الأساس تم توليد فعلين جديدين انطلاقا من فعل أصلي هو الفعل narrer سرد. فبالإضافة إلى narrer و narrateur و narration ( سرد، سارد، سرد) التي تحيل بالتتابع على فعل وفاعل وموضوع للفعل، نعثر في الفرنسية على كلمتين جديدتين : الأولى دالة على صفة، والثانية دالة على نشاطnarrativité و narrativiser( وهذه أفعال حديثة، فنحن لا نعثر في مجموعة لا حصر لها من القواميس الفرنسية الحديثة على narrativité كما لا نعثر على narrativiser ).
إن الكلمتين معا لا تقومان باستعادة تسميات سابقة، كما لا تعينان ما يعينه الفعل narrer أو narration. فالتسريد هنا ليس قصا ولا رواية ولا حكيا، إنه يشير في مرحلة أولى إلى تحويل النسقي إلى سردي، ويشير، في مرحلة ثانية، إلى إمكانية إدخال بعد تركيبي يقود إلى التحول من المورفولوجي الصرف ( العلاقات التي أشرنا إلىها سابقا ) إلى وجه قابل لأن يستثمر في لغات بعينها. فالقيم، قابلة لأن تظهر من خلال أية مادة، فالدلالة قبل أن تكون كونا مرئيا مجسدا في مواد تعبيرية ملموسة، أي قبل أن تكون نصا تاما، فإنها توجد على شكل قيم مجردة لا تدرك إلا من خلال سلسلة من العلاقات المجردة. والصيغة narrativiser تشير إلى التحريك، أي إلى الدينامية المتولدة عن تحويل العلاقات من نوع :
حزن ” م” فرح
أي خلق عمليات حيث يمكن تصور الانتقال من الحد الأول إلى الثاني عبر النفي والإثبات.
فالسردية، استنادا إلى هذا، ليست سوى فعل يقود من التجريد إلى التشخيص عبر إدراج القيم المجردة ضمن الزمنية الإنسانية. وهذا يعني تحويل العمليات، ( ما أشرنا إليه قبل لحظات بالنفي من أجل الإثبات أو العكس ) إلى فعل تركيبي يستدعي ذاتا للفعل تأخذ على عاتقها تحريك الحدود الخاصة بالكون المجرد للقيم. وهكذا نكون أمام :
فَرِح ” م ” حزين
وهو ما يعني الدخول إلى عالم التشخيص من خلال الإتيان بذات تتحمل مسؤولية تجسيد القيمة في فعل خاص.
وعلى هذا الأساس، نُظر إلى المستوى السردي باعتباره لا يشكل سوى مستوى توسطي يتم عبره تفجير البنية الثابتة للقيم ومنحها وجها مشخصا، أي النظر إلى الحياة من زاوية زمنية.
في ضوء الملاحظة الأولى يمكن تلمس مجموعة من المبادئ المعبر عنها من خلال مجموعة من المصطلحات التي لا يمكن أن نفهم أي شيء دون تحديد مضامينها الحقيقية، والأمر يتعلق بمفاهيم مثل :
“التشخيص” Anthropomorphisation
و”المتصل ” continu
و”المنفصل” discret
و”شكل المضمون”. Forme du contenu
وتعد هذه المفاهيم مفاتيح أساسية من أجل فهم ميكانيزمات النص وطرق اشتغاله، وهي أيضا ما يعبد السبل المؤدية إلى تحديد بؤر التدليل داخله.
وهذه المصطلحات نفسها تستند في وجودها المرئي إلى مفهوم مركزي له علاقة بالمبدإ السابق أي المحايثة ويتعلق الأمرب continuum. وcontinuum ( أو المتصل) يعين في الاستعمال العادي ” اللامحدد” و”غير المتقطع” و”المتواصل”، ولكنه يشير من الناحية الفلسفية إلى ” الكيان الذي لا يتحدد من خلال عناصر مميزة، أي لا يحضر في الذهن من خلال عناصره المكونة ” ( لالاند).
وفي مقابل المتصل نعثر على discret (المنفصل ) الذي يشير في معناه العادي أيضا إلى التكتم، إلا أنه يشير هنا إلى التمييز ( أي ما يحضر في الذهن من خلال عناصره المكونة ” لالاند”)، إنه متميز من خلال اشتماله على شكل. ففي مقابل المتصل يأتي المنفصل، أي العنصر المكون ليخبر عن المادة المضمونية من خلال أشكال شتى للتحقق. بل يمكن أن نوسع من الدائرة لنقول إن إسقاط المنفصل على المتصل هو الشرط الضروري لإدراك العالم، فالعالم ذاته لا يمكن أن يدرك إلا باعتباره سلسلة لا متناهية من الأشكال.
لهذا، فإن مقولة المنفصل ضرورية لفهم ميكانيزمات المسار التوليدي ( parcours génératif) الذي يعد سيرورة ناتجة عن الشروخ التي يحدثها الانتقال من المادة المضمونية عديمة الشكل ( ما تحيل عليه القيم في حالتها الغفل ) إلى الوجه المشخص أي الوحدات الظاهرة. ( شكل المضمون ).
والمسار التوليدي في ذاته ليس سوى الآثار التي تنتجها ” السردية ” باعتبار قدرتها على تحويل ما هو “قار” و”ثابت” و”غير موجه”، إلى أكوان محسوسة حيث ” يتحرك الفاعل ويفعل وينفعل ويقاوم وينجز ويفشل أو ينجح “. فالمسار التوليدي، انطلاقا من مفهوم السردية ذاته، ليس سوى السيرورة التي تقود من الحالة الأولى في ” حياة الدلالة”، وهي حالة توجد خارج أي سياق، إلى حالات جديدة تصبح فيها الدلالة مجسدة داخل أكوان محسوسة، أي ما نطلق عليه النص باعتباره مجموعة متتالية من الأحداث.
وفي هذه الحالة نكون أمام مصطلح جديد يُطلق عليه “شكل المضمون” forme du contenu، وهو ما يحيل على التمييز السابق بين المادة الفكرية العديمة الشكل وبين العناصر التي تخبر عنها. ومن هنا كان الحديث عن المحايثة والتجلي باعتبارهما يغطيان نمطين للوجود في حياة الدلالة : المادة المضمونية عديمة الشكل والأشكال المتحققة الخاصة.
وسينسف هذا المفهوم من الأساس الثنائية الشهيرة القائلة بوجود شكل من جهة ووجود مضمون من جهة ثانية. فالمعنى شكل وما ندركه من المعنى مجرد أشكال، أما جوهر المادة فسيظل صيغة مجردة غير قابلة للإمساك.
وقد أدى غياب هذا التمييز بين المادة وأشكال تجليها إلى الاعتقاد أن ما تدرسه السميائيات السردية هو مضمون القصة وأحداثها. في حين أن الأمر خلاف ذلك، فموضوع السميائيات ليس مضمون القصة وليس أحداثها، بل هو محاولة للإمساك بالأكوان الدلالية من خلال رصد الأنماط الوجودية للمعنى. إن السرد والسارد والمسرود له أمور تعود إلى التلفظ، أما البناء النصي فيعود إلى الملفوظ، وهذا المستوى هو ما تدرسه السميائيات السردية.
هذا نموذج فقط لما يمكن أن يكون عليه حال المصطلح عندما ينظر إليه باعتباره دالا لغويا فحسب دون الاهتمام بأصوله المعرفية التي يشكل التأمل فيها البداية الصحيحة نحو استيعاب فكر الآخر واستنباته في تربة جديدة لكي تكون له مردودية حقيقية.
إن استيراد المصطلح، والاستيراد فعل حضاري في المقام الأول، لا يمكن أن يكون مسهما في إنتاج معرفة تستمد جذورها من المحلي والخاص إلا إذا استند إلى الخلفيات الفلسفية التي أنتجت حدودا مصطلحية ما. فالتلاقح المعرفي بين الحضارات لا يمكن أن يكتفي بنقل الدوال المعزولة عن سياقها الثقافي، فما يهم ليس ما يُرى بالعين، وإنما الأهم من ذلك هو أن نتعلم كيف نرى.
—————————————
الهوامش
1- انظر مثلا : J Courtès : Analyse sémiotique du discours; éd Hachette , 1991, p 9
2- J V Sager : A practical Course in Terminologiy , p 22، والإحالة في مجملها وردت في رسالة الأستاذ محمد خطابي في أطروحته لنيل الدكتوراه من كلية الآداب بأكادير بعنوان : المعجمات العربية الحديثة (1974 – 1996) دراسة تحليلية نقدية للمصطلح والمفهوم. وهي رسالة مرقونة. وتعد هذه الرسالة عملا رائدا في مجال دراسة المصطللح، في المغرب على الأقل.
3- J / Molino :”Interpreter” , in L’interprétation des textes , éd Minuit , 1989, p 29
4- Gilles Deleuze, Felix Guattari : Qu’est-ce que la philosophie ?, éd Minuit , 1991 , p. 22
*- André Lalande : Vocabulaire technique et critique de la philosophie
*- Greimas , Courtès : Sémiotique. Dictionnaire raisonné de la théorie du langage
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=7051