المونولوج الداخلي في “موسم الهجرة إلى الشمال”

Bengrad
2021-06-04T10:07:43+00:00
العدد الرابع عشر
17 أغسطس 2020942 مشاهدة

حسن المودن

1- المونولوج الداخلي المستقل

لا نحتاج إلى القول إن المونولوج الداخلي في مختلف أشكاله وأنماطه مكون يهيمن على نص >الموسم<، ويمكنها من مسالك جمالية وأسلوبية ووظيفية تخصص هذه البلاغة الجديدة-بلاغة مضادة للسائد والمألوف في الأدب العربي عامة والروائي خاصة -التي بدأت تتأسس بداية من الستينات من خلال بعض الأعمال الروائية.

لكن فعالية المونولوج الداخلي لا تقف عند هذا الحد بل تسعى إلى استحداث شكل تخييلي جديد سبق للروائي الكبير ج. جويس (1) أن وصفه بأنه يكون شكل تخييل لا سردي، باعتبار أن القارئ يجد نفسه منذ السطور الأولى داخل فكر الشخصية، والمجرى اللامنقطع لهذا الفكر هو الذي يرينا- بحكم أنه يقوم تماما مقام المحكي بحصر المعنى- ما تفعله الشخصية وما يحدث لها، فنقل الأفكار يتأسس في شكل سردي مستقل يتعارض مع الاستعمال الذي يمكن أن يستعمل به نقل الأفكار في سياق ما داخل رواية يظهر فيها سارد يتكلف بتقديم ومن ثم بتوقيف مجرى الأفكار؛ ومن جهة أخرى هناك في هذا الشكل السردي المستقل تزامن (عبر الحاضر النحوي) بين الحدث والتعبير الداخلي، وهو تزامن يميز هذا الشكل الجديد عن >الشكل المألوف المحكي<، لأننا هنا أمام تراكب بين الكلام والفعل، ويماثل هذا المونولوج المستقل ما يسميه ج، جنيث (2) ب Récit isochrone كحد أقصى في البنية الزمنية للمحكي وكمحكي نظري خالص في نظره.

ونحن نعتبر الفصل الأخير من رواية >الموسم< (من ص 127 إلى نهاية الرواية) فصلا مميزا يقدم شكلا سرديا بإمكانات بكر لم تكن معروفة في السرد العربي بشكل كبير .

هكذا نجد أنفسنا منذ السطر الأول من هذا الفصل داخل فكر أنا السارد :

>العالم فجأة انقلب رأسا على عقب. الحب؟ الحب لا يفعل هذا.

إنه الحقد، أنا حاقد وطالب ثأر وغريمي في الداخلي ولا بد من مواجهة …< (ص 127).

وهو شكل يقدم لنا ما تفعله الشخصية وما تقوله داخليا، أي أنه يزامن بين الحدث والتعبير الداخلي كما في هذا النموذج:

>لا يوجد عدل في الدنيا ولا اعتدال، وأنا أحس بالمرارة والحقد، فبعد هولاء الضحايا جميعا، توج حياته بضحية أخرى، حسنة بنت محمود، المرأة الوحيدة التي أحببتها، وقتلت ود الريس المسكين وقتلت نفسها مصطفى سعيد، وقطعت… بالبشاعة والتقطت صورة في إطار من الجلد، هذه آن همند بلاشك…” (ص133 134).

والمحكي بضمير المتكلم يقترب كثيرا من المونولوج المستقل يكون وضعه الإعتباري السردي ملتبسا مثلما يكون موضوع نزاعات حدودية. فمن جهة يصعب تحديد أصل هذا المحكي : أهو المذكرات المكتوبة أم المحكي الشفوي؟ ومن جهة أخرى هناك توجه إلى الذات وتوجه إلى السامع، والقارئ إلى الآخر، الأمر الذي يمنحه مظهر السلوك الإجتماعي، ويجعله في نفس الوقت كاشفا عن أزمة وتشقق عميقين وحميمين بفضلهما يجد هذا الشكل السردي نفسه محمولا بتدخلات الضمائر الأخرى، وهذا يعني أننا أمام أنا تفرض الإنصات إلى الأنت والهو والهي… كأصوات يبدو أنها تنحصر في نفس الوقت داخل وخارج المتكلم، وهذه خاصية ملازمة لسيرورة المونولوج الداخلي : هناك متكلم داخلي يتواصل مع مخاطب هو الآخر داخلي.

هكذا يستحصر السارد (أنا الحدث) صوت مصطفى سعيد يناقشه ويحاوره، ويسخر منه مثلما يستحضر أصوات ضحاياه النسائية والملاحظ أنه ينقل خطاب هذه الأخيرة موثقا موضوعا بين مزدوجتبن، في حين أن خطاب مصطفى سعيد لا تحاصره هذ العلامات المطبعية، الأمر يخلق التباسا : إما أن أنا السارد تتذكر محكي مصطفى سعيد بلسانه منقولا بحذافيره، وإما أن أنا السارد قد تماهت من خلال صوتها مع صوت مصطفى، وهذا نموذج عن هذا الأمر.

>واضح كل هذا في الصورة على تقادم العهد بها > كانت عكسي تحن إلى مناخات استوائية وشموس قاسية وآفاق أرجوانية كنت في عينيها رمزا لكل هذا الحنين . وأنا جنوب يحن إلى الشمال والصقيع، كانت تملك شقة في هامستد تطل على هامستدهين تجيئها من اكسفورد آخر الأسبرع. كنا نقضي ليلة عندي وليلة الأحد عندها، وأحيانا نمكث الإثنين وأحيانا الأسبوع كله (…) <، كانت صيدا سهلا، قابلتها إثر محاضرة ألقيتها في أكسفورد عن أبي نواس (…)<

ويستمر صوت مصطفى سعيد غير موثق في البداية ثلاث صفحات بعدها ينقل موثقا بالمزدوجات، ليتم الانتقال إلى صوت السارد (ص 134-137). >… لقد انتحرت لماذا انتحرت شيلاغرينوديا مستر مصطفى سعيد ؟ أنا أعلم أنك تختبئ في مكان ما…< (ص 132)

هكذا يأتي المونولوج المستقل غير محصور قط في مستوى لساني وأسلوبي نوعي ومحدد، ذلك لأن تعبير الفكر يكون جد متغير لأن قصده دوما هو تشييد لهجة حميمة منسجمة. ولهذا لا تهمه الطرائق الأسلوبية< وهناك خصائص أخرى ومهمة تميز هذا الشكل السردي :

– الخاصية المهمة التي تجعل هذا الشكل السردي معارضا للمحكي المألوف تتحدد في ما يسميه دافيد هايمان ب >تكاثر الضمائر< وما تسميه د كوهن (3) بكثرة الضمائر وعدم استقرار مرجيعتها، كما في هذا النموذج :

>(… ) مسكينة ايزابيلا سيمور. إنني أحس بعطف خاص نحو ايزابيلا سيمور (…) تبتسم هي أيضا تبتسم، قال إنها كانت زوجة لجراح أما لبنتين وابن (…) وبالرغم من كل شيء تركت له رسالة تقول فيها >إذا كان في السماء إله. فأنا متأكدة أنه سينظر بعين العطف إلى طيش امرأة مسكينة لم تستطع أن تمنع السعادة من دخول قلبها ولو كان في ذلك إخلال بالعرف وجرح لكبرياء زوج ليسامحني الله ويمنحك من السعادة ما منحتني< إنني أسمع صوته في تلك الليلة، داكنا يعلو ويخفت ليس فيه حزن ولا ندم، إذ كان في الصوت شيء فقد كانت فيه رنة فرح >وسمعتها تقول لي بصوت متضرع مستسلم : أحبك…< (ص 132-)

– ومن خلال هذا النموذج يمكن استخراج خاصية تتحدد في الإحالة إلى الشخوص النسوية وإلى شخصية مصطفى سعيد الذكرية.

– ومن الملاحظ أن هناك تقلبا سريعا للأزمنة : تنتقل بسرعة من التذكر إلى معاينة المستقبل وصولا إلى فحص الوضعية الحالية، كما في هذا النموذج :

>.. الحب؟ الحب لا يفعل هذا، إنه الحقد. أنا حاقد وطالب ثأر وغريمي في الداخل ولا بد من مواجهته. ومع ذلك ما تزال في عقلي بقية تدرك سخرية الموقف. إنني أبتدئ من حيث انتهى مصطفى سعيد…< (ص 137)

– وبالرغم من هذا التقلب، فهناك تركيز على بعد زماني معين: إذا كان الحاضر المطلق ذا دور مهم في المونولوج فإن للتركيز على الماضي أهمية عند التمييز بين متكلم كثير التذكر قليل النشاط وبين آخر قليل التذكر كثير النشاط، والمونولوج المستقل في هذا النص يتسم بالتركيز على الماضي بمتكلم كثير التذكر قليل النشاط، وغالبا ما يتبع منوال هذا النموذج أسفله، تقوم الأنا بنشاط وهذا النشاط نفسه هو المثير للتذكر الطويل :

>وأمسكت صورة امرأة وتمعنت فيها،وقرأت الإهداء بخط منسق : >من شيلا مع كل حبي< شيلا غرينودبلاشك قروية من ضواحي هل، أغراها بالهدايا والكلام المعسول والنظرة التي ترى الشيء فلا تخطئه. دوختها رائحة الصندل المحروق والند، حلوة الوجه فعلا (…) كانت تقول له : >آمي ستجن وأبي سيقتلني إذا علما أنني أحب رجلا أسود ولكنني لا أبالي< قال : > كان تغني لي أغاني ماري لويد ونحن عراة…. < (ص 131-132)

لكن في آخر هذا المونولوج نجد تراوحا بين الاتجاه نحو الذات والإتجاه نحو العالم الخارجي، الأمر الذي يسقط المونولوج الداخلي تقريبا داخل العلاقة المتزامنة فاسحا المجال لنوع من >الفلم اللفظي< لكل ما تراه الأنا ولكل ما يحدث:

>لم أعد أفكر وأنا أتحرك إلى الأمام على سطح الماء. وقع ضربات ذراعي في الماء، وحركت ساقي، وصوت زفيري بالنفس ودوي النهر، وصوت المكنة تطقطق على الشاطئ لا أصوات غير ذلك. (…) الآن وفجأة وبقوة لا أدري من أين جاءتني رفعت قامتي في الماء، سمعت دوي النهر وطقطقة مكنة الماء…< (ص 154)

من خصائص المونولوج المستقل في نص >الموسم< هذا الوصف المتنقلDescription ambulatoire الذي يصلح لإبراز الديكور خلال تنقلات المتكلم (أنا الحدث) داخل الغرفة السرية لمصطفى سعيد :

>أدرت المفتاح في الباب فانفتح دون مشقة، استقبلتني رطوبة من الداخل رائحة مثل ذكرى قديمة. إنني أعرف هذه الرائحة رائحة الصندل وتحسست الطريق، بأطراف أصابعي على الحيطان. اصطدمت بزجاج نافذة فتحت مصاريع الزجاج وفتحت مصاريع الخشب، فتحت نافذة وأخرى وثالثة …] أشعلت ثقابا آخر ما بتسمت امرأة ابتسامة مريرة… وجلست في واحة الضوء ونظرت حولي فإذا مصباح قديم على المنضدة أكاد ألمس بيدي…. (ص 128)

ومن خلال هذا النموذج نقف. من جهة أخرى، عند إحدى المشكلات الكبرى التي يواجهها المونولوج المستقل : كيف نبرز بواسطة الخطاب الداخلي الأنشطة الفيزيائية التي تتعاطاها الذات زمان المونولوج؟ كيف يكون الجسد عندما يحدث الوعي نفسه؟

– أما من الناحية التركيبية، فمن الملاحظ أن هناك هيمنة للجمل التعجبية الإنفعالية والجمل الإستفهامية التي تهم الوجود والعالم والإنسان، وهي هيمنة تمكن من بنية انفعالية حميمية، والنموذج أسفله هو آخر مقطع اختم به هذا المونولوج المستقل وبالتالي الرواية نفسها:

>لن أستطيع أن أحفظ توازني مدة طويلة. إن عاجلا أو آجلا ستشدني قوى النهر إلى القاع، وفي حالة بين الحياة والموت رأيت أسرابا من القطى متجهمة شمالا، هل نحن في موسم الشتاء أو الصيف؟ هل هي رحلة أم هجرة؟ وأحسست أنني أستسلم لقوى النهر الهدامة. أحسست بساقي تجران بقية جسمي إلى أسفل …] سأحيا بالقوة والمكر، وحركت قدمي وذراعي بصعوبة وعنف حتى صارت قامتي كلها فوق الماء وبكل ما بقيت لي من طاقة صرخت، وكأنني ممثل هزلي يصيح في مسرح: >النجدة النجدة….< (ص 155-156).

2- المونولوج الأوتوبيوغرافي التذكيري

يعتبر المونولوج الأوتوبيوغرافي من متغيرات المونولوج الداخلي المستقل الأكثر هيمنة وتأطيرا لنص >الموسم<، بحيث يمكننا التساؤل : أليست هذه الرواية رواية مونولوج أوتوبوغرافي تذكري بامتياز؟

فنحن هنا أمام محكي أوتوبوغرافي ينزاح عن المألوف في الأوتوبيوغرافيات العربية ويحولها نحو تأسيس جنس جديد أو ما يشبه الجنس ذكرنا أعلاه بعض خصائصه ونذكر هنا خصـــائص أخرى أهمها:

– هناك متكلم يتذكر ما ضيه الخاص، وهو لا يبرر أبدا هذا التذكر. وبالمقابل فهو تذكر يقوم على بلاغة مزدوجة تتوجه تارة إلى القارئ وتارة أخرى إلى الذات، وهو -أي التذكر- أقرب إلى الإعتراف العمومي الحميم.

– تأتي الذكريات إلى ذهن السارد (وخصوصا في الجزء الأخير من الرواية) في نظام اعتباطي، إذ تنتقل بسرعة من الماضي البعيد إلى القريب ثم إلى الحاضر، ومن هذا إلى ذلك، عامدا بهذا إلى تكسير كرونولوجية المحكي اعتمادا على ما تسميه د . كوهن ب >المونتاج اللاكرونولوجي Montage a-chronologique < أو ما يسميه روبير هامفري ب ” a-chronological time montage ” (4) : ومن جهة أخرى وفي نفس المستوى يلاحظ أن هذا المحكي الاتوبيوغرافي التذكري محكوم بنوع من اللصق الزماني Collage temporel :

> عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة …] واستيقظت ثاني يوم وصولي> …] (29-30)

>بعد هذا بيومين …] < (ص 33)

>ذهبت للعشاء، فوجدت …] < (ص 36)

>بعد هذا بنحو أسبوع …] < (ص 37)

>ذهبت إليه ثاني يوم …]< (ص 40)

>لم يطل انتظاري، فقد جاءني مصطفى عشية ذلك اليوم ….] (ص 41)

>كانت ليلة قائظة من ليالي شهر يوليوز …] (ص63)

>وقفت عند باب دار جدي في الصباح …] (ص 83)

>قريبا من الساعة الرابعة بعد الظهر ذهبت إلى بيت مصطفى سعيد …]<(ص95)

>احتفلنا بختان الولدين وعدت للخرطوم ….] (ص 107)

لكن إذا كانت هذه المرحلة التي ركز عليها محكي السارد الأساسي (هي مرحلة تبدأ بعودته من الغربة وتنتهي بعودته من الموت) مرحلة متجذرة بالمعنى الذي تعنيه د كوهن فإنه في داخل هذه المرحلة (التجربة) نجد حلقة أكثر حداثة (بها ينتهي النص وبها تنتهي التجربة وهي أكثر قربا من حاضر التلفظ) وأكثر تجذرا (الجزء الأخير من الرواية من صر 127 إلى نهاية الرواية) : فهي تبرز حسب النظام الكرونولوجي لجريانها كما في محكي أوتوبيوغرافي :

>وقفت زمنا طويلا أمام باب الحديد ….] أدرت المفتاح (ص 127)

في الباب …] وتحسست الــــطريق بأطراف أصابعي …] فتحت نافذة …] أوقدت ثقابا …] والتقطت صورة أخــرى …]

وضعت صورة آن همند في مكانها …]

وضعت الرسالة في جيبي …]

هببت واقفا …]

دخلت الماء عاريا

وحركت قدمي وذراعي بصعوبة وعنف …] وبكل ما أوتيت من قوة صرخت …] (نهاية الرواية). لكن بالرغم من هذا النظام الكرونولوجي، فقد لعبت هذه الحلقة دور نوع من المفجر الذي سمح بسيل من الذكريات كلها من ماضي مصطفى سعيد.

وما تجدر الإشارة إليه أن النص ليس محكوما بنظام كرونولوجي صارم بقدر ما هو محكوم بفيض عفوي للأفكار والذكريات لعب دورا كبيرا في أن يمتلك بنية لا -كرونولوجية موازية للبنية الكرونولوجية للحكي العادي. فلن يخفى على القارئ المنتبه أننا أمام ذاتية قادرة على خلق فوضى غنية وصارمة في الذاكرة سواء بالنظر إلى محكيها بصفة عامة أو عند التركيز على حلقته الأخيرة، وهذه القدرة/الكفاءة تؤكد أننا أمام ذاتية قادرة على خلق نفسها بنفسها.

وهناك سمة أكثر أهمية تجعل هذا النص أقرب من المونولوج الأوتوبيوغرافي بصفة خاصة ومن المونولوج المستقل بصفة عامة هي : ندرة التشخيص الواقعي وفي المقابل هيمنة التشخيص الداخلي.

أما إذا انتقلنا إلى المحكي الأوتوبيوغرافي لمصطفى سعيد (الذي سرده بنفسه، ويمتد من ص 43 إلى ص 62) فإننا سنلاحظ أننا بحق أمام مونولوج أوتوبيوغرافي تذكري، وإن كان محكي السارد الأساسي السابق الذكر) يحوي الكثير من السمات المميزة لهذا النمط من المونولوج فإنه يشارك محكي مصطفى سعيد في خاصية أساسية هي التي دفعت بهما (أي بهذين المحكيين) إلى أن يتقدما في شكل اعتراف عمومي وحميم : مواجهة الموت. لكن إذا كان السارد الأساسي يحكي محكيه بعد أن نجا من الموت، فإن مصطفى سعيد يحكي محكيه وهو مقبل على الموت، ولا نحتاج إلى بيان الفرق بين الوضعيتين : فالمقبل على الموت يقدم اعترافا تاما وصريحا وحميما، فهو مقبل على الموت ولم يعد يهمه السكوت أو الفضح أو الإعتراف … ومن جهة أخرى لا بد من الإشارة إلى ما يميز المونولوج الأوتوبيوغرافي التذكري في محكي مصطفى عنه في محكي السارد الأساسي:

1- بدءا على عكس المحكي السابق، فهذا المحكي يبدأ من الطفولة فمرحلة المدرسة والمراهقة والشباب لينتهي بمرحلة لندن. لكن بالرغم من هذا الوفاء الكرونولوجي، فلن يخفى على أي قارئ أن الأنا الساردة كان كل همها أن تصل إلى تلك المرحلة الأساسية : مرحلة لندن. كما لن يخفى على القارئ المنتبه أن هذه المرحلة هي التي لعبت في محكي مصطفى (لقد هرب من لندن إلى القرية وهنا لن يجد راحته ما دام السارد الأساسي يلاحقه بأسئلته ويهدده ويطالبه بالحقيقة وكل حقيقته /سره متعلقا بتلك المرحلة) كما في محكي السارد الأساسي فيما بعد دور نوع من المفجر يسمح بسيل من الذكريات لماض أكثر بعدا، وهذا يعني أن مرحلة لندن هي المرحلة المتجذرة Originaire بالنسبة للمحكيين معا، أي بالنسبة للنص ككل، فهل هذا يعني أن الخط الكرونولوجي الذي يقدمه النص على المستوى الظاهري خط خداع، وأن النص ذو بنية لاكرونولوجية ما دام يؤخر ما ينبغي أن يقدم ويقدم ما ينبغي أن يؤخر على المستوى الكرونولوجي؟

لكن إذا بقينا في إطار محكي مصطفى سعيد، فإن المراحل السابقة لهذه المرحلة المتجذرة تطرأ حسب نوع من اللصق الزماني Collage temporel كما هو الحال بالنسبة للمحكي السابق :

– >… المهم أنني كما ترى ولدت في الخرطوم…< (ص 43)

– >… كان ذلك الوقت أول عهدنا بالمدارس…< (ص 44)

– >طويت المرحلة في عامين…< (ص 45)

– وصلت القاهرة…< (ص 47)

لكن بالرغم من هذا الخط الكرونولوجي الظاهري ، فإننا أمام ذاتية نراها جديرة بكسر كرونولوجية خطاب متعلق بتجاربها في الماضي من حيث :

أ – إدراجها زمن التلفظ / السرد داخل محكيها :

>اذكر الآن أن الناس كانوا غير راغبين فيها < (ص 44)

ب – يكون السارد بصدد تذكر مرحلة بعيدة في الماضي لكن هذا لا يمنعه من استحضار المستقبل:

>بعد سنوات طويلة وتجارب عدة تذكرت تلك اللحظة ، أما الآن فإنني لم أشعر بشيء على الإطلاق< (ص 46)

ج – عندما يبدأ تذكر تلك الحلقة الأكثر حداثة والأكثر تجذرا (مرحلة لندن) نجد أنفسنا أمام محكي ذي بنية لاكرونولوجية، يبدأ بالحديث عن الجريمة والمحكمة قبل أن يحدثنا عن الكيفية التي تعرف بها على ضحاياه…

ومن جهة أخرى فهذا المحكي يشارك السابق في إلغاء التشخيص الواقعي وفي فسح المجال أمام التشخيص الداخلي والفيض التلقائي للأفكار…

ونوافق الناقد جرير أبو حيدر (5) على أننا سنظلم نص >الموسم< في أصالته وعمقه بالنظر إلى الأدب العربي الحديث إذا لم نلفت النظر إلى أسلوبها الذي يقع بين الشعر والنثر، وهذه روائية أسلوبية تستحق الإهتمام خصوصا إذا ربطناها بهذه الأنماط والأشكال السردية الجديدة.

هل نقول إن نص >الموسم< من الروايات العربية الأولى التي أصلت أشكالا يعترف أغلب النقاد بتمنعها إلا على الروائيين الكبار. على أي حال لقد عرفت هذه الأشكال طريقها إلى الحقل الروائي العربي بفضل التحولات المهمة التي عرفها بدءا من العقد السادس من هذا القرن. وهذا مقطع مأخوذ من نص طويل تركه وليد مسعود، مسجلا في شريط بسيارته بعد اختفائه، وهو ينحو نحو المونولوج المستقل لكن بخصائص أخرى أهم وأروع وأكثر عمقا :

>… يا شهد اسمك غريب مثلك آكلك ألحسك كالشهد أنت رجلي المثالي منذ سنين ألا تدري أم أنك تتقصد الهرب مني سأهرب أنا منك أيضا بعد أن أوقعتني سأهرب لأنني دائما أهرب أركض إلى أن أقع على وجهي وأنا آخذ وجهها القرير بين يدي ولأتمعن في عينيها وأنفها وفمها البارد الطيب لن أهرب بعد اليوم وفي اليوم التالي هربت وسافرت وأرسلت إلي بطاقة من بيروت أجبتها برسالة في سطرين أو ثلاثة قال الله فليكن الحب فكان النعيم والجحيم وإذا الواحد يشبه الآخر فأحب الله كليهما وهذا جوابي على سؤالك القديم لم الحب يملأه الحزن كأنه بداية الفراق وجاءتني رسالتها الطويلة التقيت بابنك مروان ما أجمل عينيه وهما تلتمعان من خلال الكوفية الملتفة حول رأسه وقلت له خذوني معكم وعلموني ضرب النار يبدأ الحب وتتكرر البداية والنهاية في الأفق البعيد حيث السماء تنطبق على الأرض في الأيام الصاحية والشمس كنار منهمرة وأنا أبحث عن ظل أريد أن أقرأ أن أفكر أن أبكي لاحزان أعرفها ولا أعرفها وكلها سأعرفها… (6) .

—————————————-

الهوامش :

1- – Dorrit Cohn-La transparence intérieure, Modes de représentation de la vie psychique dans le roman- Traduction française, ed. seuil Coll Poétique, 1977, Paris, p 245 :

2 – Gérard Genette, Figures III , éd Seuil, paris 1972 pp 122-123

3- David Hayman, Ulysses : The Mechanics of Meaning-Englewoods cliffs,N.J 1970-P 100

4- Robert Humphrey, Stream of Consciousnes in the Modern Novel, Berkley , 1954, p 50

5- Jareer Abu-Hayder-A Novel Difficult to categorise, p 53

ضمن مجلة الابحاث، المجلد 32-1984 – مركز الدراسات العربية والشرقاوسطية التابع لكلية الآداب والعلوم بالجامعة الامريكية في بيروت، وهذا العدد مخصص لاعمال الطيب صالح- وهو باللغة الانجليزية .

6- جبرا ابراهيم جبرا -البحث عن وليد مسعود- منشورات دار الاداب بيروت -ط 1 فبراير 1978 م

* موسم الهجرة إلى الشمال< الطيب صالح، طبعة دار الجنوب للنشر، تونس، سلسلة عيون المعاصرة، 1979 – ونشرت هذه الرواية أول مرة في مجلة >حوار< عدد 24-25 (1966) ثم نشرتها دار الوحدة بيروت (1967) ثم أعيد نشرها ضمن روايات الهلال، القاهرة، سنة 1969 عدد 245