عز الدين الوافي
هل تفرض علينا كاميرات ” الآخر” ما نرغب وما لا نرغب في مشاهدته وقتما وكيفما تشاء؟ هل يفوض المشاهدون أمر معرفة ما يجري في العالم، بحكم عدم قدرتهم على الانتقال إلى أمكنة الأحداث، إلى صحفيين ومراسلين لا يعرفونهم؟ غير أن السؤال الأكثر إلحاحا هو لمن يفوض المصور نفسه أمر ما ينقله من “وقائع ” وصور؟
يعتبر كل من التمثيل أو المحاكاة والتقليد تجارب كثيرا ما نعيشها، ونفهم من خلالها كيف يحاول الإنسان خلق معادل آخر، وصورة مماثلة لواقع عيني، وحتى لا يسقط الفعل البشري في طي النسيان، يبتدع هذا الإنسان وسائل تقنية لتبقى أنشطته شاهدة على عصره، وتحديا ضد الزمن. وإذا كانت الصورة الثابتة أو المتحركة هي أجلى وأنضج هذه التجارب، فقد سعى الإنسان من خلالها إلى التأريخ وترك آثار لعيون أصبحت مدعوة إلى للمشاركة في الفرجة، وبالتالي متورطة في الانتماء لطقوس الجنس البشري.
يعمل من يصور أو يعرض نفسه للتصوير على قهر الموت رمزيا، ثم يقوم بإعطاء الفرصة الأخيرة لأولئك الذين يواجهون الكاميرا لإثبات وجودهم ولو على الورق، أو الشاشة أو شريط السيليلوز. إن المصورين والذين يوزعون منتوجاتهم يوجدون، بمعنى ما، إلى جانب حراس المتاحف، والأرشيفات، والأركيولوجيين أو المؤرخين لكتابة وتسجيل المعيش اليومي للناس، فهم يمنحون أحداثا بسيطة وعادية معاني عميقة وشاملة يختارونها تختار حسب السياقات الدلالية لإنتاج الخطاب المنقول.
في زمن كزماننا، لم تعد الصورة تقتصر على نقل المعارف، ولم تعد سندا للأشياء المرئية والمتباعدة زمانيا ومكانيا فحسب، بل أضحت أيضا واجهة من واجهات الفعل والتأثير في المتخيل للأفراد والجماعات. فليست الصورة كائنا ميتا، فثباتها لا يدل على الكساد ، وعمق كينونتها ينهض من سباته بمجرد ما يتلقاها الرائي. ففعل النظر يتحول، في سياق التفاعل السيميائي، من مجرد فعل للإبصار إلى كيان ناظر يحتوي على شبكة من الانفعالات الإدراكية والمفهومية.
كلنا ندرك اليوم الأهمية التي تكتسيها الصورة، وهي أهمية تأتي من موقعها في التواصل البصري على صعيد كوني. فإذا كان الخطاب الأيقوني، بحكم تعدد إمكانات تأويله، يتميز بكونه أكثر الخطابات غنى، لا يضاهيه في ذلك اللسان مثلا رغم وجود تقاطع بين الصوري واللساني، فإن إرفاق الصورة بإرسالية لغوية – مكتوبة أو شفاهية – للتعليق أو التوجيه أو التضليل قد يقلص من إمكانات التلقي ويوجهها الوجهة التي تريدها القناة المرسلة. وحسب بارث، فإن النص اللغوي الذي يكون جنب الصورة يقوم بوظيفتين :
– >وظيفة الترسيخ (Ancrage)، فالصورة تتسم بالتعدد الدلالي أي أنها تقدم للمشاهد عددا كبيرا من المدلولات لا يقوم المتلقي سوى بانتقاء بعضها وإهمال البعض الآخر. وعلى هذا الأساس فإن النص اللغوي يمارس سلطة على الصورة، ذلك أنه يتحكم في قراءتها ويكبح جمــاحها الدلالي…
-وظيفة التدعيم (Relais) وهي وظيفة مرتبطة بالنص اللغوي الذي يقوم بإضافة دلالات جديدة بحيث إن مدلولاتها تتكامل وتنصهر في إطار وحدة كبرى< (1).
وعبر هاتين الوظيفتين يتم إخضاع المشاهدين : نسخ للمشاعر ومسخ للتفاعل الإيجابي. ورغم كل ذلك، ورغم قدرة الصورة على التأثير والتوجيه، فإن هناك تباينات ثقافية وتاريخية تظل عنصرا أساسيا في طرق استقبال وقراءة الصور، فأمام مشاهد الرعب والتقتيل لايمكن ألا نتقزز ولا يمكن إلا نعبر عن تأثرنا.
إن ” النسخ” و” المسخ”صيغتان يتم من خلالهما بلورة ردود أفعال متشابهة بين عدد هائل من المشاهدين، وبالتالي تمحي إلى حد بعيد اختلافاتنا لصالح التمترس ضد هذه الصورة أو تلك بسبب تقديم نفس الإيحاءات، وهي إيحاءات تكون علنية أحيانا ومستترة أحيانا أخرى، وذلك وفق درجة الحقنة الإيديولوجية ةالمبثوثة في الصورة.
لا يقدم الفوتوغرافي الصحفي كل الأحداث، إنه ينتقي. إنه ينتقي الصور والمشاهد والأشخاص وفق إرغامات تفرضها عليه مهنته أولا ، ولكن أيضا استجابة لاختيارات سياسية وإيديولوجية شخصية. ويبقى أن المصور في رحلاته الدؤوبة للوصول إلى مصادر الخبر الموثوق يخضع لمجموعة من الاكراهات : أولها أن حضوره الجسدي لا يسعفه في رؤية ما لا يمكن أن يراه. فهو ليس كالمشاهد الذي يستلقي على أريكة لتنهال عليه الصور دون أن يتحرك من مكانه. لذلك فعملية متابعة الأحداث ميدانيا وتسجيلها بشمولية وموضوعية مسألة صعبة إن لم تكن مستحيلة.
ثانيا : إن الفوتوغرافي مقيد بشروط الجهة التي تمول أنشطته من قبيل التنقل والاتصال، ثم التواصل مع المستجوبين، وكذا إمكانية بروز عائق اللغة الذي يتطلب ترجمانا، أضف إلى ذلك الظروف المهنية والروتينية من ترخيص السلطات ومضايقاتها.
وإذا كانت القاعدة أن منتجي البرامج ومخرجيها ومعديها لا يشترطون تنفيذ أشياء بعينها، على الأقل في البلدان الديمقراطية، فإن المنتوج المصور، كان ربورتاجا أو حوارا أو فيلما، يخضع في مجمله إلى فرز وتوضيب تتدخل في تشكيله وتوجيهه وصياغته عوامل تقنية و أخرى إيديولوجية. ذلك أن حساسية الخطاب الثقافي والاجتماعي للصورة يتطلب تدخل الوسيط السياسي للحصول على دعم أو ترخيص.
إلا أن جمالية الصورة وطرق استقبالها لا تنبعث أساسا من صياغتها المباشرة ولكن موطنها الحقيقي هو الأبعاد الإيحائية التي تشتمل عليها، وهي جوانب تتم صياغتها من خلال العناصر التقنية ذاتها . فهذه العناصر هي من صميم الخطاب الفوتوغرافي : كتضاد الظل والضوء، وتوزيع الكتل، وطرق التركيب، وعمق الرؤية، ونوعية الأطر، ثم المسافة الفاصلة بين موضع الكاميرا وموضوع الصورة، وكذا قوة الإنارة وتوزيعها. كل هذا يجعل من الصورة الفوتوغرافية رؤية مطبوعة بذاتية المصور.
أمام كل هذا التقدم في عالم الصورة الذي يغتني أكثر فأكثر بواسطة الحاسوب إيجابا من حيث تطوير التقنيات والجوانب الجمالية بكل أبعادها الثلاثة لدرجة إشراك المشاهد في التمثيل والتجول داخل الفضاءات الافتراضية، وسلبا من حيث فبركة الكذب وتبرير الخداع، يمكن أن نتساءل : من يخدم الآخر ؟ الإنسان أم التقنية ؟
لا شك أن العلاقة تكاملية، غير أن الاعتقاد الجازم بقدرة التقنية على الحلول محل الإنسان لحل مشاكله أمر مشكوك فيه. وربما تم في هذه الحالة استدعاء الواجب الأخلاقي في التعامل مع الأحداث والمشاهد الخاصة والعامة.
إن للمصور الصحفي مسؤولية تقديرية تتطلب منه ممارسة مهامه بكثير من الحذر. لذا فهو مطالب بالوقوف إلى جانب الحقيقة، وكل تجاوز لجوهر رسالته يعتبر خيانة للمهنة وتجاوزا لحقوق الآخرين.
1- R. Barthes : Rhétorique de l’image, in Communications n 4 ,1964 , p . 44
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=7072