ه .ج .گادامير
ترجمة : محمد خطابي
للعمل الفني الأدبي -من بين جميع تجليات اللغة -صلة امتيازية بالتأويل، ومن ثمة فهو قريب من الفلسفة، ويخيل إلي أن الاستعانة بأدوات مستعارة من الظاهراتية تمكننا من تبيان هذا الأمر.
ولكي يحصل لنا الاقتناع بذلك يجب التسليم بأن التطورات الأخيرة التي شهدتها الظاهراتية هي وحدها التي ضمنت للتأويل مكانة محورية. فهذا هوسريل يرى أن تصور الشيء باعتباره شيئا وتقييمه ومعالجته بالرجوع إلى دلالته كان شكلا راقيا من النشاط الفكري المبني على صرح طبقة ظاهرية مؤسسة للإدراك الحسي.
وعلى هذا النحو فالبعد الهرمينوطيقي، في رأيه، عنصر تال يسبقه حضور ملموس (عيني) لموضوع الإدراك في الإدراك “الخالص”. لا ريب في أن هوسريل استند في وصفه الدقيق إلى منهجية هرمنوطيقية مؤكدة، ولم يكرس جهوده إلا لتأويل الظواهر من منظورات رحبة دائما وبدقة أكبر دائما. بيد أن تفكيره لم يكن لصيقا بحميمية العلاقة الجامعة بين مفهوم الظاهرة و”التأويل”. وقد بين لنا ما نفعله منذ هايدگر أن الترسانة الظاهراتية عند هوسريل كانت تخفي حكما مسبقا دوغمائيا. وقد كان ماكس شيلر- ذو الذهن الثاقب المستوعب موضوعات الذرائعية الأمريكية وموضوعات نيتشه ونتائج الأبحاث الحديثة في الحساسية سباقا إلى إبراز أن لا وجود للإدراك الخالص. فالإدراك “الخالص” “المطابق مطابقة تامة للإثارة” تجريد ترجمته الإشارة الى المستوى الذي تنمحي عنده المعرفة المعيشة للعالم. أما هايدگر فيعود إليه فضل تبيان أن تجريدنا الامتلاء المحسوس للحياة المعيشة -على الرغم من كونه أحد الافتراضات الأساسية في البحث العلمي- يسنده حكم أنطولوجي مسبق مكن تاريخ الميتافيزيقا من رفع النقاب عنه. وقد كانت الذرائعية الامريكية وسيكولوجيا الأشكال- وإن بطريقة مختلفة- متمسكتين سلفا بحقيقة مفادها أن نشاط الإدراك يقدم نفسه مندمجا في سياق نفعي للحياة، مما يعني أن الظاهرة الأولى هي على الدوام رؤية شيء باعتباره شيئا، لا الإدراك الحسي الذي قد يزعم إدراك الموضوع معطى خالصا. لا وجود لرؤية ليست مسبقا ودائما >تصور شيء باعتباره كذا<. ولكن كان علينا انتظار مجيء هايدگر كي نكتشف أن التراث الميتافيزيقي الإغريقي هو المسؤول عن دوغمائية “الإدراك الخالص”، وهو الذي ساق نظرية المعرفة عندنا، نحو أفق مغلق.
كان لقاء فريدا ذاك الذي مكن هايدگر من حدسه الثوري، أعني أنه كان في الوقت ذاته تلميذا في مدرستي هوسريل وأرسطو. فعلى خلاف الظاهراتيين الآخرين -وعلى وجه الخصوص الكانطية الجديدة التي كانت لها الصولة في ألمانيا أيام شبابي- تمكن هايدگر، بفضل أصوله وتربيته وصلابة وسلامة فكره وأستاذية بعض مدرسيه في كلية العلوم الدينية بفريبورغ، تمكن من تحقيق فهم مطلق الجدة والملموسية لأرسطو. أما أنا فخريج المدرسة الكانطية الجديدة بفاربورغ حيث يزدرى أرسطوا أيما ازدراء.
ومن هذا القبيل أن هرمان كوهن كان يستخدم عبارة شديدة القوة تترجم شعوره: >كان أرسطو عطارا<. ومعناها أن فكر أرسطو لم يجاوز حدود التصنيف، أي تلك الطريقة التي ينهجها العطار المتمثلة في لصق جذيذات على أضابره وعلبه وقاروراته. كان في هذا ظلم فادح لغنى وعمق إسهام أرسطو في الفكر الفلسفي.
أما هايدگر الخبير فقد كان يحب الاستشفاء في >المياه المعدنية< للفلسفة الأرسطية، وكان يعلمنا أن نقطة الانطلاق التي استعارها هوسريل مما يسمى الإدراك الخالص تكشف عن حضور الفكر الأرسطي عنده حضورا غير واع ولكنه نشيط. وذاك ما أثر في عودته إلى “الأشياء في ذاتها “. إن التحول الذي مر به الفكر الغربي من الجوهر إلى الذات منح للإرث الإغريقي تعبيرا سجل حتى في اللغة. فالجوهر والذات ترجمتان ممكنتان لـ Lypokeimenon أو لـ Ousia، وتدل الكلمتان في الحقيقة على الشيء نفسه : ما يظل قابعا] في الأسفل، ما يمتد إلى الأسفل، ما يظل ثابتا حين تَغُير الظواهر وعقب جميع التغيرات الحادثة بالمصادفة، ما يظل حضوره مستمرا دونما انقطاع. وهكذا تركز مسير الفكر الأوروبي برمته حول هذا الواقع المصطلحي التقني. فحين ننطق اليوم لفظة >ذات< لم نعد ننتبه إلى أننا أمام حالة خاصة من الحضور المؤسس لشيء مستمر، في مقابل ما يتغير، حالة خاصة من الجوهر، وفي حالتنا هاته حال الوعي الذي تتغير كل تمثيلاته وأفكاره، غير أنه يظل مع ذلك “هو هو “؛ وبناء عليه فهو وعي الذات نفسها]. ليؤذن لي بالتذكير بعبارة كانط الشهيرة تلك] الكلمة السحرية التي لا تستدعي في الحقيقة إيقاعها الغامض أية فكرة أي فضول] لدى المبتدئين في الفلسفة : عبارة التركيب الترنسند تالي للرؤية، وهي العبارة التقنية التي تعني عند كانط واقعا بسيطا مفاده أن >أفكر< يجب أن ترافق جميع تمثيلاتي، وذلك لأنه ما من تمثيل إلا وهو تمثيل يترجم صاحبه ولم يبدأ الاختلاف، من حيث الدلالة، بين الذات والجوهر إلا بعد شيوع المعنى الذي أكسبه كانط لمفهوم الذات.
وهكذا ستسم البنية الانعكاسية للذاتية الفلسفة الحديثة برمتها.
إن ما اكتشفه هايدگر هو أن بين اللغة المفهومية عند الإغريق، الذين طوروا خبرتهم بالعالم في ميداني الطبيعة وما بعد الطبيعة محيلين إلى الكون في نهاية المطاف -والخبرة المعاصرة بالعالم، وهي خبرتنا المحددة والمصوغة أساسا في قسط منها من قبل المسيحية توترا عميقا إلى حد أن الروح والقلب والوعي، ووعي النفس أو ربما شيئا تضرب جذوره فيما هو أعمق من وعي الذات وفهمنا الخاص للوجود تتحكم في مسألة الكائن الثاني والتاريخي، أي نحن. لقد وفق هايدگر، في ظني، في إدراك أن المجال الذي يعتبر مجال أسئلة الإنسان هذه لا ينحصر في السؤال الفاتن للوجود برمته.
فالتجربة، لا ريب، تبين لنا اليوم جميعا أن لا شيء في الفلسفة أو تقريبا، أكثر شعبية وقدرة على الوصول إلى كل دوائر المستمعين من مسائل الكون. وهذا صحيح، إلا أنه لا يقل صحة عن أن التوجه الأساس عند الإغريق إلى علوم الكون، وكذا عن الانتقال الذي يسقط على التقليد المسيحي لثقافتنا تصورات بلورها الإغريق تبعا لمتطلبات إشكالية كونية يمثلان صعوبة تعنينا جميعا حتى أعمق أعماقنا. ولكي نعبر عن هذا بطريقة مجازية نقول إن الوجود المؤمن للكون الذي قدره أرسطو دائما ومضمونا لظنه أنه برهن – عن طريق استدلال تصوري -على طابعه غير المخلوق وغير القابل للفناء، أتى عليه السؤال الذي يطرحه الإنسان حول وجوده الخاص المنتهي وكذا حول مستقبله. إن اكتشاف الديانتين اليهودية والمسيحية لأولوية أسبقية] المستقبل، أي الأخرويات ووعدها هو ما فتح الباب أمام بعد من أبعاد فهم العالم ظل هامشيا عند الإغريق ألا وهو التاريخ. لا يمكن اختزال التاريخ في قصص وأشياء نحكيها لأنها وقعت ولها فائدة بحكم وقوعها للناس، بل التاريخ على العكس يتحكم في مسار البشر عبر الحقب والعصور، هذا إن لم يكن في صورة التاريخ وانتظار العفو: وهذا ما نقل مظهرا آخر من التجربة الإنسانية إلى الواجهة، أعني مظهر الأمل. وهكذا يخترق تاريخ الفكر الأوروبي كله توتر بين التجربة الإنسانية التي تمتد تاريخيا وتتجه فضلا عن ذلك نحو المستقبل من ناحية، ومن ناحية ثانية مفهمة تمتح من الكون. بعد أن اخترق هذا التوتر الميتافيزيفا كلها ها هو ذا مستمر حتى هيغل- وليس شيء آخر هو ما استمر في التعبير عن نفسه في تحلل تمثيل الميتافيزيقا هذا في التعارض المتوتر بين تصورات الوعي ووعي الذات من جهة، وتصور التاريخ والآخر من ناحية أخرى.
يتعلق الأمر كما نعلم بمسألة التاريخانية التي أطبقت في أواخر القرن 19 على الأفق، ما بعد الرومانسية وتحت نفوذ الرومانسية. فقبل صعود نجم هايدگر لم يكن ثمة حل للمسألة في الأفق. لقد كان له فضل تبصيرنا، أناو كثيرين أمثالي، بحقيقة مفادها أن المفاهيم التي نفكر بها هي التي تفكر لنا دوما، وبعبارة أخرى إن المفاهيم التي سعينا إلى صب أفكارنا في قوالبها تسم وتحدد سلفا ما نستطيع إدراكه فعليا انطلاقا من خبراتنا الفكرية الخاصة. ومعناه أننا فيما يخص مسألة التاريخانية ننتقدها ونبالغ في ذلك إلى حد أن ما أصبح مركزيا ليس هو الذات والموضوع، والوعي ووعي الذات وإنما زمنية الفهم وإجادة شيء ما و”التفاهم باعتبار” ( se comprendre comme). وفي الحقيقة كان هذا يعني أن الظاهراتية أضحت أشد ظاهرية بحكم أنها لم تعد تنطلق من “معطى” ومن “شيء” الإدراك الذي اعتبر حسيا خالصا، وإنما من الالتزام بالتجربة العملية المعيشة، الزمنية والتاريخانية على الدوام.
لا تتعدى الغاية من هذا التقديم الذي بسطنا خطوطه العريضة إبراز الأهمية الفلسفية لطرح السؤال الآتي والتهييء لطرحه : ما هو الأدب، وما هي قيمته، باعتباره فنا، في نظر الفلسفة؟ لقد ظلت مؤلفاتي -في إطار توجه محدد- تمفصل البعد الهرمينوطيقي : بعد فهم شيء باعتباره شيئا< وبعد “إجادة شيء ما ” وطبيعتنا ”المستقبلية” الأساسية، وهي مشروع يسم حياتنا ويوجهها، أي ما سماه بلوخ Bloch مبدأ الأمل. لقد انطلقت من ملاحظة بسيطة مفادها أننا لا نفهم إلا ما نفهمه باعتباره جوابا عن سؤال. وهي ملاحظة عادية هذه حربتها : قبل الجواب عن سؤال أو فهم شيء باعتباره جوابا عن سؤال، ينبغي لنا فهم السؤال أولا، وقد جرب كل منا ما يلي : نطلب من شخص ما شيئا، ولا يعرف بالضبط بم يجيب لأنه لم يفهم ما نريد معرفته بالضبط، والسؤال الطبيعي الذي سيجيبنا به هو : لم تطلبون هذا؟ لا أستطيع الجواب ما لم أعرف لم تسألونني وما تريدون معرفته بالذات. ينطوي هذا الوصف -على الرغم من طبيعته البادية- على ديالتيك عميق حقا . من الذي طرح السؤال أولا؟ من الذي يفهم السؤال فهما يمكنه الإجابة “الصحيحة”. وبعبارة أوجز أن يقول حقا رأيه في السؤال؟ من ذا الذي لم يع، بمجرد أن فهم السؤال، أن السؤال يسبق جوابه؟ يشاء ديالتيك سؤال -جواب إلا أن يكون كل سؤال جوابا يحفز بدوره سؤالا جديدا، هكذا عملية السؤال- الجواب على البنية الأسِّية للتواصل بين الناس، وعلى التكوين الأصلي للحوار، وهو ما يعد صلب الفهم عند الإنسان.
لكن هل الأمر على هذا النحو في العمل الفني الأدبي؟ ما معنى الفهم إذن؟ من السهل الإجابة حين يتعلق الأمر برسالة علمية أو نص علمي أو رسالة أو ملاحظة : إنه معرفة ما يعنيه الآخر، لقد فهمت السؤال إذن قياسا على أن ما قيل يكتسب دلالته في ضوء السؤال، فنموذج السؤال – الجواب يسم معرفتنا برمتها، سواء في ميدان العلم أو في الحياة العلمية. لكن هل الأمر كذلك في ذلك الفن اللغوي الذي تستحق الأعمال المنتمية إليه -في رأينا- “صفة الأدب ” غاية الاستحقاق؟ أو تهييء طرح المسألة في ثلاث مراحل أدناه.
1- أليس عجيبا أننا نحدد روائع الفن اللغوي انطلاقا من المكتوب؟ >فشرط المكتوب< يعد خلفية لفظة “الأدب”. ما الذي يمنح إذن وزنا “لشرط المكتوب ” إزاء أصلية المقول؟ وما دام الأمركذلك، كيف أمكن لمفهوم الأدب أن يصبح أكسيولوجيا، بالمعنى المحصور في قولنا مثلا في قصيدة رديئة إنها ليست أدبا، وبالعكس عن رائعة من النثر العلمي إنها نص أدبي؟ كيف جعلنا المكتوب يحتل المنزلة الأعلى، وما دلالة ذلك؟
فلنتذكر القصة التي حكاها سقراط في كتاب أفلاطون الموسوم فيدر Phèdre : قصة ثوت Theut الذي اخترع الكتابة وقدمها -مادحا إياها لملك مصر -باعتبارها اختراعا لفائدة الإنسانية لا نظير له، لأنها ستقوي ذاكرة هذه الأخيرة إلى ما لانهاية له. وكان جواب ملك مصر الحكيم : إن ما اخترعته سيؤدي إلى إضعاف الذاكرة، لا إلى تقويتها. لم يكن سقراط يرى في هذا الاختراع تقدما، ولم يخطر بباله أن الكلمة الشفوية قد يتجاوزها شيء أعلى منها. وعلى العكس كان يرى المكتوب عرضة للبوار والاحتقار والاستعمال السيء والتفسير المقلوب. وستؤول الدقة ووثوقية التبادل المقيد للكلمات إلى عدم اليقين. إن ما يميز المكتوب عن الحديث هنا هو أن الأول ليس بمقدوره إنجاد نفسه. الكاتب أعزل لا وسائل لديه للدفاع، أما في التحاور الحي فبمكنته الاحتياط بما يلزم قصد دفع أي تفسير مقلوب وأي استعمال سيء لحديثه، وذلك بتفنيده في حديثه نفسه. تلك نظرة أفلاطونية أرسى قواعدها أفلاطون في رسالته السابعة الشهيرة (التي أفردت لها كتابا)؛ وفيها يذهب إلى أن من يظن تثبيت وتدوين الأساسي الصحيح حقا بوساطة المكتوب أمرا ممكنا شخص لا بد يئست من هدايته كل الآلهة ضال ضلال مبينا]
2- يعني المكتوب في كل الأحوال فقدان المباشرة اللصيقة بالكلام، إذ يفتقر كل مكتوب إلى التنغيم والحركة والنبر. كلنا يعرف الـمشكلة المتصلة بالقراءة جهرا وهي خبرة عامة نحصلها في التعليم : حين يجب على التلميذ قراءة جملة لا يفهمها، فإننا نعجز عن فهم التلميذ نفسه. لا يمكن أن نفهم إلا شخصا يقرأ كما لو أنه يتكلم، أي لا يقرأ بطريقة تجعل الكلمات تكر وتتهجى الواحدة تلو الأخرى، وإنما بطريقة تجعل القراءة تتم كما لو أن الكلمات تسير سيرا حيا حثيثا حيث تمنحك الكلمة صاحبتها، وفق تعبير ألماني جميل. وهذا ما تسمح تجربة أخرى بفهمه : نكتشف – يقينا- الممثل المتوسط الموهبة بكونه يشرع في الكلام ثانية قبل الأوان، وبكونه يخلق لدينا انطباعا بأنه لا يفتأ يقرأ بينما المطلوب منه هو الكلام حقا. وهذه في واقع الأمر ظاهرة شديدة الأهمية بالنسبة للهرمينوطيقا. لقد شرع في الاعتناء بالظاهرة بدءا من القرن الثامن عشر، في عصر التقوية الورعية] في إطار هرمينوطيقا التبشير. إن الانتقال اللاحق من القراءة جهرا سواء كان المرء يقرأ لنفسه أم للآخرين- إلى القراءة سرا يؤشر على حقبة جديدة سواء بالنسبة لفن الكتابة أو القراءة. وهذا ما لا ينبغي أن ينساه التحليل الأسلوبي >للأدب<. ومعناه أيضا أن شرط المكتوب يعني فقدا للقيمة.
3- على أن ذلك لم يحل دون المكتوب واكتساب حجية لافتة. ومثاله أننا نطلب مكتوبا حين نريد التثبت مما قيل، ونفضل تصديق ما هو معبر عنه كتابة. لكن هل يعقل أنه، بفضل التواصل بالكلمات في الصيغة الجامدة للمكتوب-من الممكن التقاط معنى المقول بالتمام، وذلك على نحو يجعل المقول -بفضل المكتوب- >حاضرا< من جديد حضورا كاملا؟ يغدو المقول من جديد ناطقا في كمال معناه حين يقرؤه شخص ما.
أما فيما يخص ماهية القراءة والطريقة التي تتم بها فذاك، في نظري، من أشد الأمور غموضا وأمسها حاجة إلى تحليل ظاهراتي.
فتجديد الكتابة باعتبارها استعادة للكلام بلغة تم تثبيتها بالكتابة نصل إلى تصور أوسع للأدب والنص. وفي جميع الأحوال، يدل الانتقال إلى المكتوب على قطيعة مع الحدث اللغوي الأصلي. لكن ما نميزه باعتباره أدبا، ومن باب أولى العمل الفني الأدبي، يستحق ما هو أحسن من التحديد السلبي لا غير. وهو لا يختزل في ما وقع تثبيته من الكلام الشفوي، الكلام الذي فقد قسطا من طاقته التواصلية. الأدب، ولسبب أقوى العمل الفني اللغوي، هو بالأحرى كلام يتطلب، هو لذاته، أن يقرأ كما ينبغي له.
هكذا يتخذ التثبيت بالمكتوب في كل مرة صيغة مختلفة، وذلك وفق الظروف التي يستخدم فيها المكتوب. وعلى الجملة ينبغي لنا التمييز إذن بين : الملاحظة ذات الاستعمال الشخصي التي يفترض استعمالها الاستنجاد بالذاكرة، والرسالة المبعوثة إلى شخص معين. وتخضع هي ذاتها لبعض شروط الفهم؛ وأخيرا جميع أشكال النشر الموجهة إلى قارئ غير محدد. وفي هذه الحالة لكي يتحقق مقصد التواصل، نحتاج بهذا القدر أو ذاك إلى ضرب من فن الكتابة. وفي جميع الأحوال ينقل المكتوب مقصد الكلام ما دامت غايتنا هي نقل محتوى قابل للتثبيت. هكذا تحقق أشكال المكتوب هذه جميعها القطيعة مع الفعل الأصلي للكلام وتحيل في المقام الأول وليس الأخير لا إلى الذي تكلم، وإنما إلى ما كان فكر فيه. ومن ثم لكل مكتوب ضرب من المثالية.
ليست في علمي كلمة أخرى لتسمية هذا سوى تلك التي استخدمها أفلاطون. ويمكن أن تنطبق هذه على الصيغة الانطولوجية للحقائق الرياضية، دون إشراك المذهب الميتافيزيقي الأفلاطوني حول الأفكار مع ذلك. وفي الحقيقة ليست المثالية حقا من حقوق المكتوب فحسب وإنما هي من حقوق الكلام والاستماع البدئيين، ما دام محتواها قابلا للانفصال عن تجسيد فعل الكلام واستعادته من جديد. إنه لمما يجلي المثالية والهوية هو إمكان الاستعادة ودقتها الكبيرة بهذا القدر أو ذاك. يصدق الشيء نفسه على القراءة، فإذا كان بإمكاننا القول إن فلانا يحسن القراءة أولا يحسنها، فذلك لأن النص حاضر عندنا حضورا مثاليا خالصا. والنص الذي أحسنت قراءته نص يواكب فهمه القراءة وهو بهذا المعنى مفهوم، إذ لا أحد بإمكانه فهم نص أسيئت قراءته.
غير أن شيئا شديد الحدة يبرز بخصوص النص الأدبي المفهوم باعتباره عملا فنيا لغويا. وهنا لا يكفي فهم الفكرة، وإنما ينبغي بالضبط إدراكها في تجليها اللغوي. وفي هذه الحالة يكون الكلام الذي وقع تثبيته أدبيا موجها إلى الاستماع. وهذا ما تبينه جيدا حال الشعر الشفوي الذي لما يتوقف الجدال حوله بعد : تشفير التقليد الغنائي أو الملحمي المستمر في الليدر Leider ، مقيد مسبقا في إمكانات التخزين التي يوفرها هذان التشكيلان اللغويان. على أن لدينا وضعية مخالفة تماما هي فرضية القراءة لفائدتنا، أي سرا، لا فرضية المحاضرة أو القراءة جهرا، ومع ذلك حتى في هذه الحالة، ننتظر من العمل الفني الأدبي شيئا أكثر من مجرد نقل محتوى نستخلصه منه، نعني نقل التمظهر اللغوي، ومن المؤكد أن المقصود ليس هو تمظهر الفعل البدئي للكلام. يفترض هذا الفعل، على العكس، هو الآخر أن الانفصال عن الكلام البدئي قد تحقق وأن له حظه من المثالية التي تعد من حقوق كل مكتوب وكل أدب وكل نص. تأمل، على سبيل التمثيل، ما تحس به لو حدث وسمعت المبدع نفسه يقرأ شعرا أو نثرا تحبه حبا وتعشق أذنك سماعه. بودي أن أفترض هنا أن المبدع ينجز عمله هذا على أكمل وجه، وهو أمر ليس بدهيا : فالشاعر المجيد ليس على الدوام خطيبا مفلقا. وحتى لو كان خطيبا جيدا، فإننا نحس بشيء من الجزع. ما الذي أصاب صوته؟ لماذا يصيح وينبر وينغم ويوقع أبياته على هذا النحو بالذات. لا كما هي في أذنى؟ فمهما افترضنا أنه يجيد تنغيم إبداعه الأدبي، وأنه ينشده إنشادا حساسا لبنيته الصوتية، ومع ذلك يلازم قراءته شيء ما عرضي، أي شيء ما غير أساسي يحجب ما هو أساسي في نظري، بيد أن الأطروحة التي أساندها هي تلك الذاهبة إلى أن العمل الفني الأدبي يصل بهذا القدر أو ذاك إلى حضوره بالنسبة للأذن الباطنية. إن الأذن الباطنية هي التي تدرك التشكيل اللغوي المثالي، وهذا شيء لا أحد باستطاعته سماعه البتة. وذلك لأن التشكيل الأدبي المثالي يستلزم من صوت الانسان إدراك مستوى لا طاقة له به… وهذا بالضبط هو نمط وجود النص الأدبي. تفرض علينا هذه المثالية نفسها بصورة طبيعية حين نحاول قراءة شيء ما لفائدتنا جهرا أو الكلام وحيدين جهرا. وفيما يتعلق بصوتنا ودرجة توفقه في تحقيق التنغيم والنبر، فإن أداءنا يتسم هو الآخر من زاوية تقييمنا الذاتي-بسمة العرض.
إلام وصلنا إذن؟ وصلنا إلى شرط للمكتوب متقدم على الكلام، بل إنه تقدم لا يمكننا تداركه. لا يظل الأدب متأخرا حتما عن الكلام كما بدا ذلك لما استوفى شرط المكتوب، فهو لا ريب في ذلك عمل فني لغوي، غير أن هذا يعني أنه، من حيث هو كذلك، مكتوب يسبق بمراحل كل تعبير شفوي نصوغ فيه المكتوب. وهذا لا يلغي أن الشعر يقرأ أيضا جهرا : هذا أمر يتوقف على النوع الأدبي، ومثاله أن القصيدة الملحمية تستدعي ”الإنشاد” أكثر مما تستدعيه الرواية : أما المسرحية فهي في جميع الأحوال تؤلف لتمثل على الحشبة. وحتى حين تكون مؤلفة للقراءة لا للخشبة، فإن حضورها لا يكتمل إلا عند قراءتها جهرا. ومع هذا أنا مقتنع بوجود أدب عظيم لا نستطيع قراءته جهرا لأنه يجب إذ ذاك -لا سيما في حالة الشعر الغنائي- أن يكون كلاما يصل إلى أعماقي ويخترقني. سأقول مثلا إن ريلكه شاعر يستدعي التأمل أكثر مما يستدعي الإنشاد، وبمعنى مقابل نوعا ما أقول إن شيلر وگوته وجورج في الألمانية نماذج من فن لغوي نحب سماعه كحبنا سماع الموسيقى…. ولو أن المهمة تظل لا نهائية فإننا، كما بينا ذلك، لا نستطيع الوفاء بها على نحو مثالي وكامل كما ترتضيه الأذن >الباطنية<. إنه المسمة المشتركة بين الأداب -ظاهريا- هي أن الكاتب يتوارى على كل حال لأنه حدد تحديدا تاما التمظهر اللغوي حسب ما تذهب إليه الفكرة القائلة إنه يمتنع أن يضاف إليه شيء ما : كل شيء موجود في كلمات النص، على النحو الذي تظهر به في النص. هذا هو ما يسمي فن الكتابة.
إن العمل الفني يستلزم فن الكتابة؛ هذا قول في حد ذاته مبتذل. لكن مم يتألف هذا الفن؟ إن حديثنا عن >الفن< بكل المعاني التقريبية الممكنة لهذه اللفظة أمر واقع، ويمكن أن نسوق على هذا مثالا حالة الحكي الشفوي أو المكتوب. ولكن ما الذي يحدث حين نضفي على شيء ما صفة الشعر أو صفة الإبداع الأدبي؟ يبدو أن لسانيات النص الحديثة لا تعير هذا السؤال ما يكفي من العناية (مثلا، پول ريكور وديريدا).
يجب أن نميز هنا بين معنيين لمفهوم النص، أحدهما واسع والآخر ضيق. إننا نحتكم إلى النص حين لا نوافق على تأويلات معطاة له. وفي المقابل لا نكتفي بالمعنى >الحرفي< الخالص حين >نفهم< النص. يلغي >الفهم< تعارض الفكر والحرف. وهكذا فالنص حتى بالمعنى الواسع للمصطلح، يحال على >الفهم< ويقبل “التأويل”. على أنه يبدو لي أن النص الذي يعد عملا فنيا نص بالمعنى السامي للكلمة. وترجمته أنه ليس فحسب قابلا ””للتأويل” وإنما هو مفتقر إليه. ربما سمح لي بالسير خطوة إلى الأمام من أجل إبراز ذلك : أول ما يعلمنا إياه “الأدب” هو أننا على خلاف معالجة سائر اللغة في عملية الفهم، لا نخترق تمظهره اللغوي ثم نهمله . هناك مقارنة دالة قام بها پول فاليري بين القطع النقدية القديمة المسكوكة من ذهب والأوراق النقدية البنكية اليوم، وذلك من أجل الإشارة إلى الفرق القائم بين الكلام الشعري والكلام اليومي. وقد ظللنا نتعلم هذا في المدرسة : هب أنك دققت قطعة نقدية من فئة عشرين ماركا بواسطة مطرقة إلى أن أنمحى الرسم المنقوش على وجهيها ثم قدمتها للجواهري. سيعطيك هذا مقابلها عشرين ماركا. القطعة في ذاتها تساوي ما تساويه، وما تساويه ليس هو المنقوش عليها فقط، والقصيدة على غرار ما وصفنا، لغة لا تعني شيئا ما فقط، وإنما هي ما تدل عليه. أما الورقة النقدية اليوم فهي لا تساوي شيئا. هي موجودة باعتبارها ورقة، ورقة فقط تدل على شيء، مما يسمح لها بأداء وظيفتها الاقتصادية.
يمكن قول الشيء نفسه عن الكلمة المنطوقة في الحياة اليومية، إذ لا تؤدي إلا وظيفة تواصلية : إن وظيفتها لا تتعدى الدلالة على شيء ما، أما في ذاتها فهي لا تساوي شيئا، أي أنني أفهم بالتمام ما تقوله وتبلغه لي. فعندما تصلني رسالة ما أنكب على قراءتها، ومعناه أنها قد أدت وظيفتها على الوجه الأكمل. ومن الناس من يمزق الرسالة بمجرد الانتهاء من قراءتها، مما يبين بوضوح جوهر هذا التواصل اللغوي، إذ بمجرد تلقيها تكون قد أدت وظيفتها. وعلى عكس ذلك كلنا يعلم أن معرفة قصيدة ما لا يقوم دليلا على أنني أنهيت أمرها. ولهذا السبب لا أحد يجرؤ على القول عن قصيدة جيدة >أعرفها مسبقا< مثما أنه لا يحيد عنها. والعكس هو الحاصل أي أنني كلما تعمقت معرفتي للقصيدة ازداد فهمي لها…. أي أنني بقدرما أفكك القصيدة وأركبها إلى حد حفظها عن ظهر قلب ومعرفتها بعمق، بقدر ما تكلمني القصيدة الجيدة حقا. لا يصيبها فقر من جراء ذلك وإنما يزيدها غنى، وهذا ما علمتنا إياه ميادين أخرى من الفن. بهذه الصورة يظهر، بطريقة ممتازة، ما يميز العمل الفني من حيث هو عمل فني… وهو ما يجعلنا نقيم بجواره لا نبرحه. وأحسن من وصف هذا الذي تحدثنا عنه هو كانط. قال في كتابه Gritique du Jugement خبرة الجمال تدل على تكثيف شعورنا بالحياة في شموليتها.
حين ننتهي من تأمل مجموعة من الأعمال الفنية التشكيلية العظيمة، أو نغادر مسرحا أو قاعة عروض موسيقية يجتاحنا شعور حماسي بالحياة في شموليتها. وقد أذهب إلى حد القول إن مواجهة عمل فني عظيم يعتبر دائما حوارا مثمرا، فعالية من التساؤلات والإجابات : تساؤلات مطروحة وإجابات متلقاة تحتم حوارا حقيقيا يسمح لشيء ما بالبزوغ لشيء ما ”” يدوم”.
هذا ما يبينه العمل الفني الأدبي بدون أدنى صعوبة تذكر، على أني، لأسباب منهجية، قد أتخذ لي وجهة مغايرة لوجهة إنگاردن، على الرغم من أن بحثه في العمل الفني الأدبي بالضبط استخلص من دراسة الرواية نتائج مثمرة جدا. فالرواية، فيما يبدو لي، جنس أدبي حديث الوجود يمثل شكلا مختلطا لا يمكن من تعرف الوظائف الأساسية للكلام الشعري بوضوح. وهكذا وقع اختياري على الشعر الغنائي-في صورته المثلى- الذي بموافقته النموذج الملارمي عن >الشعر الخالص< يكاد يتحرر كلية من أشكال خطابية، أي من الاستعمال اليومي للحديث. وترجمة ذلك أن الوسائل اللغوية والتركيبية لا تستخدم فيه إلا بشح كبير. وكل شيء فيه يعتمد اعتمادا على قوة الجاذبية الخاصة بالكلمات، وذلك بطريقة تجعل حركة الصوت وحركة المعنى، في نفس المجموع، تلتحمان في وحدة بنيوية لا تنفصم عراها. على أنه لا ينبغي أن ننخدع بهذا الخصوص، أقصد أن لدلالة الكلمات نفسها ولمعنى البيان الذي يستهدفانه دورا في الوحدة البنيوية للتشكيل الأدبي. وهذا في رأيي وجه ضعف الإسهام البنيوي المهم، في رد فعل مفهوم على المماثلة الثقافوية المستثمرة بين الشعر والنثر سواء تعلق الأمر بقراءته أو بفهمه؟ يتجلى ذلك الضعف في عدم إلقاء الضوء الكافي -في ميدان الأدب- على تناغم المعنى في الشعر، وعدم الإعتناء فيه بطريقة بالغة الأحادية سوى بالبنية الصوتية. وفي هذا الإطار تمثل مدرسة جاكبسون على سبيل المثال، خطرا لا يرفض هو نفسه الاعتراف به. والواقع أن لحركة المعنى هي الأخرى أهميتها،حتى حين تبدو شديدة البعد عما هو مفهوم من التعبير.
في اعتقادي أن هاهنا ضروبا خطيرة من الخلط ترتكب. ومثاله أن من الفطاحل من يذهبون منذ ظهور الكتاب المشهور لهوغو فريديريش Hugo Friedrich، إلى أن الأدب الحديث يستعصي على الفهم، دون أن يعيروا اهتماما إلى ما ينجم عن حكمهم هذا، وما ينجم عنه هو رفض المنزلة اللغوية للأدب. نفهم دائما شيئا ما، ويعني الفهم دائما حصول نوع من الألفة مع شيء ذي معنى. ولا ريب في أن هناك درجات من الألفة، مثلا مع ما يمكن تسميته “”الساكا “(Saga) إن أسطورة مقدمة بطريقة غير مسبوقة ولا تقل اعتباطا عن أسطورة هولدرلين في أناشيده المتأخرة، بدت من بنات الجنون مستعصية على الفهم وقد بدت كذلك حتى لمعاصريه المتعودين على الأساطير الإنسانية والمسيحية، فضلا عن أصدقائه المعتمدين من الشعراء الرومانسيين الذي أعلنوا “أساطير جمالية” جديدة”. لم يعد فن القرن العشرين يتغذى من تقليد أسطوري حي، ولا يفهم بالطريقة نفسها التي فُهم بها تقليد أسطوري حي من تلقاء ذاته. إنما هو لغة،خطاب، شيء ما قيل وكتب على النحو الذي قيل به : ساگا تقول أشياء كثيرة، لا شك في أننا ربما لسنا اليوم، أكثر مما مضى، في مستوى تحصيل هذا “الذي قيل” في كلام يستوعبه. لا نستطيع أن نتعرف فيه شيئا سبقت لنا معرفته وشيئا نعرف نحن أنفسنا تبليغه لغيرنا وتبيينه لهم. غير أن هذا ينتهي، رغم ذلك، إلى اكتساب هوية هرمينوطيقية، إنه شرع يتكلم.
قد يكون من اللازم انجاز تحليل أدق من أجل رد الانصهار الحميمي إلى عناصره، وهو خاصية من خصائص القوة الموحية للغة، ينجم من الصوت والدلالة. توجد في دلالة الكلمة طبقة أولى تتدخل في الانقياد للغة من حيث هي لغة، طبقة وصفها هوسريل مستعملا مفهومي “المقصد” و “الملء”، وفي الفنون التشكيلية عامة يوافق المظهر الأيقوني هذه الطبقة الأولى، وقد يوجد في الأشكال الفنية الأخرى شيء شبيه بهذا. لإدراك ذلك فلنتذكر إوزة باولوا Pawlowa في كونسطانس والموسيقى المسماة موضوعاتية، وهما مثالان يسمحان باكتشاف المشابهة. أما الطبقة الثانية فهي ما استخلصه إنگاردن عن الرواية وسماه خطاطية اللغة. تختلف أساليب تحقق الخطاطة، أما النص، باعتباره تشكيلا لغويا، فيظل واحدا ومطابقا لنفسه، حتى إن أفضل ترجمةتفقده بعضا من طاقته الموحية. وأخيرا هناك طبقة ثالثة يتحقق فيها الاستدعاء اللغوي في صورته الكاملة تلك التي سميتها في سياق أعم توقع الكمال، وهو موجود في كل إدراك للمعنى. يجد هذا التوقع في الشعر، على وجه الخصوص، تنفيذه وذلك يجعل القصيدة إلزاما لا يمكن الفكاك منه.
يمكننا التساؤل عن إمكان تمييز هذه الطبقات الثلاث في جميع أشكال الفن، وخاصة حيث لا يتعلق الأمر بالمحاكاة والتصوير (figuration). وفي جميع الأحوال يشتمل العمل الفني على مستوى أول هو مستوى العلامات ذات المعنى، والمعنى اللغوي: وهو مستوى لا نجد له نظيرا في أي شكل فني آخر. وفضلا على هذا يمكن التساؤل عما إذا كانت هذه الأشكال الأخرى تتوفر على شيء نظير لامتلاء الخطاطة في حال العمل الفني اللغوي عما إذا كانت الموسيقى الملائمة لإنجاز عزف ما تفهم تنفيذا لتعليمات تدعو إلى فعل يسمح -في حدود المنصوص عليه- بحرية الإنجاز التام أقل مما تفهم إعادة إنتاج مثاله المسرح الأدبي. بيد أن الفروق، في الموسيقى واضحة بين نص النوطات التي نعزفها والحريات الخاصة التي نتوفر عليها بخصوص “الوقفات” لا بل “الزخارف”. هناك أيضا أسباب أخرى وجيهة لاعتبار الموسيقى مثل المسرح من الفنون التي تعيد الإنتاج. ذلك أنه في عادة جديدة تنتمي إلى الواقع، ينجز العمل في وحدته وهويته بالطريقة نفسها عند الجميع. أما القراءة فليست عكس ما تقدم تمثيلا مسرحيا داخليا، إنها توافق بالأحرى وبالتمام مصاحبة فعالة ونشاطا هو نشاط المتفرج أو المستمع حين التمثيل أو العزف. ويجتهد الخيال عند كليهما لملء الفضاءات التي تركها النص أو التمثيل (العزف) فارغة.
يبدو لي أن العنصر المشترك بين جميع الفنون هو الطبقة الثالثة. فكما أن توقع الكمال يحدد كل إدراك للمعنى باعتباره توقعا للكمال، وهو يبينه لنا باستمرار واقع كوننا نتجاوز عن الأخطاء الإملائية أو المطبعية أثناء القراءة. فإن مما يميز كل عمل فني أننا من أجل تمتيعه بكامل سلطته نستبطن إنشاءه ونجعل منه بذلك رسالة كابحة. وهكذا فمن المفارقة الاستمرار في الحديث عن نقد الفن. إنه يتمثل بصورة أقل في التمييز بين الجيد والرديء في العمل الفني مما يتمثل في التمييز بين العمل الفني “الناجح ” و الفاشل بل تمييزه مما هو ببساطة عمل رديء وهذا هو ما أدركه كانط في تحليله للحكم المستند إلى الذوق؛ فهذا الأخير ليس إصدار حكم على ما نعتبره جميلا، وإنما هو فعل اعتبار الشيء جميلا . وليس معنى هذا معارضة احتمال وجود مؤاخذات نقدية.
لكن البنية فيه تظل هي هي : ما يعلمنا به “النقد” هو فشل العمل الفني. ولا يتضمن ذلك بتاتا أن الناقد يستطيع تحسينه (إصلاحه) أو يعرف أن يقول بصورة إيجابية كيفية تصويبه.
يجب التفكير أيضا فيما يتغير في هذا الاستعداد >للنزوع إلى الإمتلاء< بحيث تتميز>الخاصية< الباقية عن الترددات والأصداء الزائلة.
وهكذا فالتجربة السالبة التي يصاب فيها توقع الامتلاء بالفشل، في حالة الأدب، ليست تجربة توبيخ معلن بطريقة نقدية على النص (أو مجموعة من المؤاخذات المماثلة) وإنما هي بالعكس تجربة انقلاب لا تترك مجالا للعمل ليتحدث بصفته عملا فنيا… ومن ثم نعتبره مملا أو فارغا ورديئا وعاطفيا أو مقلدا ثم >نتخلى عنه<.
لكن لنعد إلى مقارنة فاليري : من أين للكلمات -القطع النقدية الذهبية -تلك القيمة الذاتية (ضربة واحدة)؟ إنها ماهي، بمعنى أن قسطا من اللغة اكتسب هنا قواما أكسيولوجيا خاصا به وغدا بارزا بولوجه حضورا ثابتا هو حضوره. ومن ثم يكتسب التشكيل اللغوي مباشرة حضورا زمنيا ينفرد به. قال هايدگر في مقال له شهير: في العمل الفني وحده يتبين (يبرز) كل شيء حقا. فاللون ليس لونا بتاتا إلا في ألوان رسام كبير، والحجر ليس حجرا بتاتا إلا حين يحمل في عمود إغريقي، عتبا. لكن ما دلالة قولنا بالمثل ليست الكلمة أبدا كلمة إلا في عمل فني لغوي؟ كيف لكلمة أن تكون أكثر كلمية من أخرى؟ كيف تكون الكلمة في قصيدة أكثر كلمية من أخرى تنمحي في الاستعمال اليومي؟
هذا ما يوضحه أشد ما يكون التوضيح عدم قابلية الشعر الغنائي للترجمة، وبذلك تحتاج المسألة إلى إعمال النظر. ذلك أن الوحدة بين الصوت والمعنى في القصائد الغنائية حميمية حتى أننا لا نستطيع أن ننتج في مادة لغوية أخرى، سوى تخمينات غير مباشرة أو استبدال القصائد الأصلية بأخرى مختلفة عنها تماما. ففي القصيدة الجيدة يوجدتضافر قوي (ثوب محبوك) بين الصوت والمعنى تكفي تعديلات طفيفة في النص لتقويض القصيدة بأكملها.
هذا ما سأبينه من خلال مثال بسيط مذكرا في الوقت نفسه بأن ترتيب المعنى شيء ضروري للقصيدة، دون إغفال كونه حاسما (هو، وليس “بنية” الأصوات وحدها فحسب) بالنسبة للعمل الأدبي منظورا إليه في شموليته. المثال المعني قصيدة مشهورة لهولدرلين تستعيد صوفوكليس. جاء في الطباعات القديمة ما يلي “comprend la haute vertu celui qui a porté son regard sur le monde, et le sage à la fin s’incline devant le beau”
على أننا نعلم، منذ ما يقرب من ثلاثين سنة، أن في الأمر خطأ مطبعيا أو قرائيا وأن النص الموثوق هو “conprend la haute jeunesse celui qui a porté son regard sur le monde et le sage à la fin s’incline devant le beau” فبحصول تغيير واحد صرنا أمام قصيدة أخرى مخالفة تماما، أما الآن فالنص الأصلي بين أيدينا أخيرا. ولأننا يومذاك لم نكن نتوفر إلا على النص القديم، فالقصيدة شيليرية النفس، لا هولدرلينية النفس.
وهو ما لا يعني الانتقاص من قدر شيلر، لكن لما كان شعر هولدرلين كشعر شيلر (كان الناشرون القدماء ميالين إلى هولدرلين الشاب)، فإنه ليس بعد شعر هولدرلين. فقراءة لفظة الشباب Jugend بدل الفضيلة Jujend ليس إلا تحويرا للصوت، ولو أن القراءة الصحيحة تناسب تليينا في نطق الصوت يكمن في الإشراق العذب للشباب. لكننا الآن فقط من خلال المعنى وصلنا إلى امتلاء القصيدة : إنه حاضر فعلا ذاك الوقع الهادئ لخطوة الرقص المبدعة التي جابت الدائرة. ربما يرتبط هذا الكلام بنص القصيدة أو جزء منها !؟ نعرف فجأة لم انحنى الحكيم ” أمام الجمال” : ينحني أمام الكائن الذي جعله شبابه جميلا حيث ما من رؤية للعالم منقادة تزحزح إيمانه بما هو سام، وهكذا استعادت القصيدة توازنها التام، وندرك أن الحرف المعني، حرف واحد، كان كافيا للم شمل القصيدة.
من الواضح أن المثال الذي سقناه متطرف حيث قرر فيه حرف واحد مصير القصيدة. أثناء نسخ النصوص تكون بعض الحروف غامضة، بل كلمات بأكملها بل أواخر الأبيات إلخ…
قد يكون من الخطير؛ في ظل ظروف المحافظة التي تحيط بأدبنا الإغريقي واللاتيني، أن تكون للحروف نفس الدرجة من الأهمية، لكن المثال المتطرف الذي ذكرناه يلقي الضوء على المعجزة الحقيقية : أي أن القصيدة تستعيد كينونتها العميقة، والوحدة السحرية بين الفكر والحدث، الوحدة التي تعد منبعا تنبجس منه الموسيقى وتأتي نحونا مليئة بالمشاعر، منذ الأزل. إن ما يميز الأدب إذن هو انبثاق الكلمة حتى إن فرادتها الصوتية التي لا تعوض تجعلنا نسمع تعددا معنويا يستعصي على قدراتنا. هذا هو ما كنت أقصده من خلال مثال مالارميه. تخلق القصيدة فضاء لقوة الجذب التي تتمتع بها الكلمات ثم تستسلم لها. على عكس النحو والتركيب اللذين يحكمان ”استعمالنا” الكلمات. وفي هذا يتمثل التجسيد الشعري للمعنى في اللغة : ليس على المعنى ولوج أحادية بُعد السياقات الإستدلالية أو السلاسل المنطقية للتبعية، وعلى العكس يمنح تعدد معاني كل كلمة، وفق عبارة Paul Celan، للقصيدة على نحو من الأنحاء، بعدها الثالث.
من المؤكد أن الأمر على النحو التالي وصفه : تذكرنا القصيدة بالنحت والتشكيل وربما بالفضاءات المتعددة الأبعاد في الموسيقى، أقل مما تذكرنا بالرسم أو بوصف شيء معلوم. إنه تلازم عجيب من التوحد في التمظهر الصوتي وفي التعدد الصوتي، ذاك الذي يضيف إلى كل صوت نظاما كاملا في الإحالة، فيبدي لنا المجموع نسجا فريدا، وبتسمية بنية التشكل الشعري هذه >نصا< نستعمل كلمة دالة جدا. النص يعني النسج ويدل النص على ثوب مصنوع من خيوط متميزة منسوج بعضها مع بعض نسجا محكما حتى أن الكل يصبح ثوبا له حياكته الخاصة. يمكننا، بالطبع قول الشيء نفسه عن أية وحدة قولية، دون حصره في العمل الفني الأدبي وحده، لكن في العمل الفني الشعري يتخذ نسيج النص قواما جديدا.
لقد اتخذت القصيدة الغنائية مثالا، وفسرت سبب ذلك آنفا. ومن الواضح أن أشكالا لغوية أخرى، لغة الملحمة أو الدراما مثلا، تنتج تشكيلا بنيويا شبيها من الوحدات. غير أن احتمالات الترجمة – وهي قوية في الحالتين المذكورتين – تشير إلى أن خيوط النسيج الصوتي تؤدي هنا دورا هينا وأن شيئا آخر هو الموكول له تشكيل الوحدات.
أود أن أبين ذلك بحكاية تستند إلى مثال من إعادة الإنتاج أشد تعقيدا لا ريب؛ إنه مثال تجربة فن المسرح. لكن الحكاية قد توضح الطريقة التي بها ينغلق العمل الأدبي أو الفني هو نفسه ولنفسه في الوحدة التي يكونها، الكيفية التي بها يتموضع داخل استقلاليته. إليك الحكاية : كنت ذات مرة في مسرح بمنهايم، وكانت المسرحية من إبداع مسرحي إيطالي اسمه Hugo Betti (أحد أقرباء Emilio betti الهرمينوطيقي المشهور). كنا جالسين في الصفوف الأمامية نتحرق شوقا، وفجأة وقبل بدء التمثيل صعد شرطي إلى الخشبة قبالة الستار فقال : “السيارة التي رقم لوحتها AU 27C6 لم يحسن صاحبها تركينها. نرجو من صاحبها حالا…”؟ التفت الجميع خلفا لرؤية من سيغادر القاعة. وفي هذه الأثناء رفع الستار، فأدركنا أن صعود الشرطي إلى الخشبة كان بداية المسرحية. كف الجميع عن الالتفاف ثم اتجهت أبصارنا إلى الخشبة. لقد فهمنا أن الشرطي وما قاله جزء من المسرحية الممثلة أمام أعيننا.
من المؤكد أنها حكاية تبرز قوتها الكيفية التي بها يمنح شيء ما نفسه استقلاليته. بيد أن هذا بالذات هو ما تجعلنا النصوص اللغوية الخالصة نَخْبره على الدوام. وقد أشار هوسرل، على نحو جيد، إلى الطريقة التي ينهار بها في حالة العمل الفني-انتظار الواقع دونما حاجة إلى اعتماد مقولات غير مناسبة كالتخييل والإيهام…الخ . ويلاحظ، في غالب الأحيان، فيما يخص الاختزال الجوهري أن هذا الأخير “يتم بتلقائية” في حالة العمل الفني. وتوضح الحكاية أعلاه “وضع الواقع بين قوسين” هذا، مثلما توضح الانتظار الجديد الذي ينشأ هنا : انتظار -يجاوز الانتظار المقَوَّم – أن يقول لنا >التمثيل< على العكس شيئا آخر.
إليك مثالا آخر مأخوذا من مجال الرؤية يعرفه الجميع. في فن التصوير الحديث نجد أمثلة كثيرة من الصور في الصحف التي تضاهي الصورة. غير أننا نعرف أن تلك تقدم مشاهد مسرحية أو سينمائية أو لوحة فنية، وليس تغطية حية للواقع، لماذا؟ لأن ما تقدمه تلك يفوق الواقع، الواقع ليس واقعيا بنفس الدرجة، فكل شيء فيها مكثف ومركب إلى حد يجعلنا نخدع بسهولة فنعتبر الصورة تثبيتا بالمصادفة لما هو مصور، وإنما على العكس تركيزا مقصدا عنوة.
بإمكاننا الاستمرار في توضيح جواز النص إلى الاستقلالية، وذلك بتقديم أمثلة لغوية خالصة. قد توجد، مثلا، علاقة بين التاريخ والرواية التاريخية، أو عند الملحن علاقة بين لحن الليدة أغنية شعبية ألمانية] ونصها، ويمكن أن تغدو تلك العلاقة هوية تقريبية. هل يمكننا سماع Du bist Orplid, mein Land” دون الربط بين كلماتها وموسيقى هوغو وولفHugo wolf ؟ تنقل هذه الظواهر من خلال الفروق التي يكتشفها فيها الفكر إلى الواجهة ما يعد مبهما وغامضا على وجه التقريب.
وفي النهاية هلم نلقي نظرة على الفلسفة التي صلتها هي الأخرى وثيقة مع اللغة بل لا توجد إلا فيها. نحن في غنى عن البرهنة على واقع اشتغالنا نحن الفلاسفة بالأدب وروعته اللغوية، لقد تحدث أفلاطون عن الخصوبة العريقة بين الفلسفة والشعر: الأكيد أن نقد الأسطورة وقصص الآلهة وبشاعاتها كما رواها هوميروس وخاصة هيزيود كان له دائما دور في الميل إلى المعرفة المسماة فلسفة. وعلى النحو نفسه تضمن الشعر الإغريقي في حدود ما نعرفه منه، أي شعر هوميروس، ولسبب أقوى في القرون اللاحقة تضمن نقدا دؤوبا للآلهة، وفي الحقيقة نفترض هذه الخصومة، مثلما الخصومة بين الفلسفة والشعر وككل خصومة، مجموعة رهانات بين المتخاصمين، ويتعلق الأمر هنا بوحدة الكلمة وحقيقتها الممكنة. وفي الختام، بعد أن عالجنا الوظيفة الشعرية للكلمة، لنتساءل كيف تعبر هذه الوظيفة عن نفسها؟
ما هي الصورة التي يتخذها حضور اللغة في الفلسفة؟ نعلم جميعا أن ما يتحدث عنه الفلاسفة هو، بمعنى من المعاني، عدم : كل ما يتعلق بالوجود، “الوجود” وتمفصله إلى عملية تصور مقولي. ولا شيء من هذا يندرج في باب ”المعطى” بتاتا، وهذا ما يفسر، منذ الأزل فقر الفيلسوف في مدارج اللغة : اللغة التي يتكلمها الناس مكرسة لخدمة توجهنا في العالم، وللسماح لنا بالتقدم في مسالك التفكير المطابق لمساءلة أنفسنا وهي مساءلة تتجاوز كل >معطى<. في ألمانيا بدءا من الرومانسية كان مفكرو المثالية يدركون أن لغة الفلسفة يعتريها توتر ملحوظ بين الاستعمال اليومي للغة وإمكاناتها التعبيرية النظرية، مثما أننا بدورنا بدءا من الرومانسية الألمانية، وباستعادة أفكار فيكو Vico وهيردر Herder، نرى في الشعر اللغة الأصلية عند الإنسانية. وأخيرا، إن العنصر الفاعل سواء في قوة الفكر المبدعة أو في الصور الشعرية شيء شبيه بالشعر الأصلي في اللغة.
ومهما يكن، هناك مشكلة مزمنة ألا وهي مشكلة معرفة ما يعتبر حقا نصا فلسفيا، ما لم يتحتم النفي المطلق لوجوده، وربما كان أفلاطون صائبا لما قال إن النصوص الفلسفية، أي تلك التي نسميها كذلك، في حقيقة أمرها مساهمات في حوار لا ينقطع. إننا نغدو مدرسيين بالمعنى القدحي للكلمة إن عاملنا ”نصوص” الفلسفة معاملة النصوص الأدبية، لا معاملة معالم فحسب على الطريق التي نمفصل فيها، تصوريا، مقاصدنا الفكرية. ربما كانت الفلسفة والشعر شديدي القرب من بعضهما لأن مجيئهما من أفقين مختلفين جعلهما يلتقيان : لا تفتأ لغة الفلسفة تتجاوز نفسها، بينما لغة القصيدة (لغة كل قصيدة حقة) لغة فريدة ولا تقبل التجاوز. ليس مستبعدا -ومن المهم على كل حال إدراك ذلك- أن مفكرا من عيار هيغل كان واعيا تمام الوعي بالمشكلات التي تطرحها القضية الحملية وشكل الحكم على الفكر الفلسفي، مثلما أنه ليس مستبعدا أن هيغل أنصف حركة الفكر أكثر مما يبدو ذلك في منهجه الجدلي الجامد. ذلك أن هيغل نفسه الذي ساند مذهب القضية النظرية، كان له على مالارميه، شاعر الشعر الخالص، تأثير وجاذبية قويان ومخصوصان، ومن بين قصائد مالارميه الأولى أو الأخيرة، نجد قصائد تبدو ألفاظها هيغلية تقريبا، وهي مع ذلك القصائد -مثل Igitur أو Coupe de Dés – الأقرب إلى مثال الإبداع المطابق >للشعر الخالص<.
لا يتعلق الأمر بالانتصار لمثال (Idéal) فني بعينه إزاء أشكال أخرى من الفن اللغوي، كما أنه ليس انتصارا لنظرية الفن للفن. وإذا كان الشعر -على الرغم من استقلاليته الأنطولوجية التي حاولت البرهنة عليها من خلال العمل الفني اللغوي- يتخذ في سياق الحياة صورا صغيرة، فإن هذا بالذات هو ما يجعل منه فنا. إذا قلنا إن للفن التشكيلي حضوره بدءا مما تكشف عنه وثائق ما قبل التاريخ وقبيله مرورا >بديانة الفن< عند الإغريق، والإبداعات الكبرى للحضارات الأسيوية، وانتقالا إلى العصور الوسطى المسيحية، فبالقدر نفسه نقول إن ما أنتجته الشعوب من شعر يندرج هو الآخر في سياقات دينية ومدنسة، ولا يكتمل بتاتا في مجرد مفعول فتنته الجمالية الخالصة. فقدرته المتمثلة في منح المضامين الأشد تنافرا هذا الحضور تبين سلطة القول التي يتمتع بها باعتباره فنا.
إن المشترك بين الشعر من حيث هو لغة والفلسفة يتمثل في أن الفيلسوف، بخلاف العالم، يقول شيئا لا يحيل على شيء آخر قد يكون موجودا في مكان ما، بالطريقة التي توجد بها في البنك ضمانة الورقة النقدية. وحين يسير الفكر نحو تشكله التام، فإنه ليس غريبا بل هو بين أهله وذويه، بحيث إنه يضع هذا الشكل نفسه في كلمات ينطقها. هذا علاوة على أن النص ليس له في عرف الفيلسوف نمط وجود كوجود >الأدب<. وربما كان محظورا عليه حظرا تاما الاعتراف بكل بساطة >بصدق< أي نص معطى، ويجب عليه عوض ذلك، حسب القولة الشهيرة لأفلاطون، الاكتفاء دائما بإدماج النص في تنامي حوار الروح مع نفسها في الفكر. الفكر هو هذا الحوار المستمر بين الروح وذاتها. وعلى هذا النحو يمكن القول إن الفلسفة وعملها يوجدان في الوقت ذاته في مكان قصي منفلت من مجال إدراكنا ولهما حضور مطلق يميز آلهة الفن. لا وجود للتقدم سواء في الفلسفة أو في الفن. إن ما يهم في كليهما وبحضور كليهما هو شيء آخر: إنه تحقيق المشاركة.
* – النص المترجم مأخوذ من :
Philosophie et littérature , in Hans-Georg Gadamer :
” L’Art de comprendre” Ecrits II , éd Aubier , 1991, pp 169 – 193
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=7075