بيير ماشري
ترجمة محمد تهامي*
حينما نمعن النظر في الصرح الشعري الذي أقامه فوكو احتفاء بروسل، من خلال نص لا هو بالأدبي ولا هو بالفلسفي، بل يتأرجح بينهما، فإننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من استذكار العمل الذي أنجزه هايدجر حول هولدرين، وهو العمل الذي سيرافق مساره الفلسفي منذ بدايته سنة 1934. ويبدو أن المحاولتين معا تحددهما نفس المراهنة التجريبية : الإنصات لمعتوه متكلم لا تخضع طرقه في الحديث للمعايير المعتمدة في الحكم على مدى ” جودة ” القول؛ مما يدفعنا إلى إعادة النظر في الاستعمالات المعتادة للغة وفي طرق التفكير أيضا. فهل غدا الكاتب مهرج الفيلسوف ؟ وهل صار وضع الأدب بالنسبة للفلسفة يفرض عليه موقعا غامضا ضمن حدود لا هو تماما داخلها ولا هو تماما خارجها ؟
لكن ألا نخاطر، عند الاكتفاء بهذه الصياغات، بإعادة تنشيط تصور ماهوي للأدب وللفلسفة، سيعمل على تثبيت العلاقة بينهما بشكل نهائي؟ ذلك لأن هناك جنونا وجنونا، وأن كافة الحدود ليست من نفس النوع. فعندما يبدو فوكو ينسج على منوال روسل، وهي الطريقة التي اتبعها هيدغر بخصوص هولدرين، فإن هذه الطريقة سيتم نقلها إلى مجال آخر بحيث تكتسب بعدا جديدا : الجنون الخفيف ( la folie douce) لروسل بطابعه الساخر الذي يستمد منه وظيفة نقدية واضحة وخالية من الإحالة على العظمة البطولية المتكبرة الجافة التي تميز هولدرين عن هايدغر. وسيكون من العبث أن نبحث في القراءة التي أنجزها فوكو عن المقابل ” للروح الجرمانية” الأصلية التي يصبغها هايدغر، عن حق أو عن باطل، على شاعره : ” لأن الروح الفرنساوية ” الهشة والمجانية التي يمكن أن تستخلص من جناسات روسل، لن تكون هي ذاتها إلا قناعا. وإذا كان من الممكن إزاحة هذا القناع، فإن ذلك سيكشف عن حالة عدم وجود قناع آخر، عن فراغ وغياب ما. وبعبارة أخرى، إن روسل الذي يتحدث عنه فوكو لا يمكن استعادته من منظور تفسير تأويلي، إذ ليس لديه ما يقوله نهائيا، وكل خطابه يميل نحو الكشف عن هذا اللامعنى المطلق. إن نصوص روسل بتلاعباتها الطفولية بالألفاظ وإباحيتها الشكلية حول ماهية اللغة، تتحدث عن الموت، وليس عن شيء آخر: إن كل شيء عليه أن يختفي.
ونحن ننهي بدراسة للحالة روسل خاصة بقراءات فلسفية لنصوص أدبية، يبدو أننا أكملنا مسارا نظريا يقود من تأملات حول السيرورة ( ” مسالك التاريخ” ) إلى تنويعات حول ثيمة المحايثة ( في عمق الأشياء )، لنصل إلى تفكير حول الموت ( ” الكل عليه أن يختفي” ). الصيرورة والمحايثة والموت : من خلال تعالق هذه المفاهيم ترتسم الهيئة العامة لرسالة ما. فكل شيء يجري كما لو أن الآثارالأدبية، بالمعنى التاريخي لهذه العبارة، كما تحددت واستقرت خلال القرنين السالفين، تعطي ترجمتها لخطاب واحد، تشترك فيه جميعها ويُكَوِن ” فلسفتها”. ويمكن تلخيص هذا الخطاب على الشكل التالي : باتباع مسالك التاريخ نتوصل إلى عمق الأشياء، أي إلى الحد الذي ينبغي أن يختفي معه كل شيء.
غير أننا نصطدم بصعوبة عظمى حين نتبنى هذه الطريقة لفك رموز الدرس الفلسفي للأدب. وبدعوى تفادي هذه الصعوبة نتظاهر بأننا وجدنا التوجه الأساسي لمنهج ذي طبيعة هرمينوطوقية ينحصر في الكشف عن معنى خفي، وليس لنا سوى إتمام المشوار. فالدعوة إلى فلسفة أدبية، على افتراض أن الأدب باعتباره كذلك هو كائن ” يفكر”، معناها الانقياد إلى تأكيد أن الأدب يفكر في شيء ما، وأيضا أن نكون عرضة لإغراء استخلاص من نصوصه ما يفكر فيه، على شكل مجموعة منفصلة من الملفوظات، معتبرين هذا الذي يفكر فيه مضمونا نظريا يمتلك قيمة دلالية في ذاتها. معناها أيضا الإذعان لوهم أدب مثخن بالفلسفة، بمعنى احتواء شكل ما لمضمون يلتقطه ويضفي عليه لبوسا، مضمون يستمد منه أيضا حقيقته الأساسية. وبالضبط ما هو وضع الحقيقة في الأدب ؟ وهل هذه الحقيقة تعود إلى تحديد فلسفي ؟ وإذا كان الأمر كذلك فيم يكون هذا التحديد النظام الأدبي ؟
فلسفة بدون فلاسفة
لماذا يتعين على الفلسفة أن تهتم بالأدب وما هي الأشكال الممكنة لهذا الاهتمام ؟ و هل هذا الاهتمام ناتج فقط عن المقصد الشمولي للفلسفة التي تقوم، في غياب أي موضوع محدد، بمعالجة كل الموضوعات دون تمييز ؟ وهذا يعني أن الأدب، إلى جانب القانون والدين الخ، يكون موضوعا للفلسفة الهدف منه الكشف عن دلالته الجوهرية، ومنحه أساسا عقليا أو لتدقيق حدود مسعاه. آنئذ يمكن الحديث عن فلسفة للأدب، كما نتحدث عن فلسفة للقانون أو عن فلسفة للدين. ذلك أن الفلسفة ستمد الأدب بموضوع للتفكير الفلسفي، وستعالج هذا الموضوع، إلى جانب مواضيع أخرى، لتجعله يعبر بصمت عن أشكال التأمل التي تسكنه، وربما دون علم منه.
مثل هذه الطريقة تشبه كثيرا محاولة للاستعادة أو الإلحاق، فهي تدرج الأدب داخل حقل التفكير الفلسفي من أجل استيعابه، للوصول، في نهاية المطاف، إلى نزع صفة الأدبية عنه وذلك بإعادة تعريفه من خلال حدود فكر يظل خارجا عنه يوجد غريبا عنه، أو بالحط من قيمته من خلال الحكم عليه انطلاقا من وجهة نظر تتجاوزه. وإذا كانت مثل هذه المحاولة غير مقنعة، فذلك لأنها ترد مسألة العلاقة بين الأدب والفلسفة إلى قضية تموضع : في منظور كهذا، يتعلق الأمر أولا بقياس الأهمية المتوالية لمجالات التأثير أو التدخل، وذلك بهدف التوصل إلى إدماجهما ( ذلك ما نقوم به عندما نعيد التفكير فلسفيا في الآثار الأدبية ) أو بإقامة علاقة إقصاء بينها ( ذلك ما نقوم به عندما نرسم الخطوط الفاصلة والواضحة بهذا القدر أو ذاك بين ما هو فلسفي وما ليس كذلك في الأدب ذاته ). وعندئذ نتبنى تمثيلا واسعا أو مكثفا لسلطات ” أدب ما” و” فلسفة ما” بردها للأدب إلى تحديدات مجالية، باعتبارها أراض يجب أن تحدد أو تلحق، أن تحمى أو يدافع عنها.
عندما نتحدث عن فلسفة أدبية، فإننا نريد أن نتبنى توجها مخالفا تماما للتوجه المطابق لفلسفة الأدب هذه، وهذا يطرح مسألة علاقات الأدب والفلسفة من زاوية لا علاقة لها بتحديد للمواقع ( زاوية تقود إلى توزيع المواقع )، وإنما من زاوية تعود إلى الإنتاج. وسنتساءل بدءا عن الطرق المتنوعة بالضرورة التي يمكن للفلسفة حسبها أن ” تمارس” الأدب، وللأدب أن ” يمارس” الفلسفة، حينها سنضع في المقام الأول الجانب الإجرائي، المنجز للأعمال الأدبية الذي يربط، بشكل ملموس، الشبكة التي يتوحد داخلها الأدب والفلسفة لكي يصلا إلى حالة من التمازج. وعندئذ سنبحث في اشتغال الأدب ذاته عن أمارات هذا الإنتاج الفكري الذي يجب على الفلسفة أن تهتم به في المقام الأول ما دامت هي الأخرى ستدرك على أنها اشتغال وعملية إنتاج. وسنقوم بالبحث عن أشكال علاقة فعلية بين الأدب والفلسفة إذا نحن أخذنا بعين الاعتبار طابع الفكر هذا الذي يتميز أساسا بالفعالية.
أي نوع من الفكر يتشكل في النصوص الأدبية ؟ في الوهلة الأولى يمكن تحديده على أنه فكر أعمى أو أخرس يقوم انبثاقه المتوحش بقطع الخيط المتواصل ظاهريا لخطابات هذه النصوص. وينتج عن هذا انفتاح على بعد عرضاني يتطابق مع ما تفكر فيه هذه النصوص دون أن تدري، وبالتالي فهي لا تصرح به، على الأقل لنفسها. وستكون الفلسفة الأدبية حينها فلسفة عفوية للكتاب بالمعنى الذي تم فيه الحديث عن فلسفة عفوية للعلماء : وسينحصر إذ ذاك مفعولها في الاجترار النظري الذي يقوم، من وراء استعمالات الكتابة، باحتلال مكانتها في فضاء ” معرفة” مسبقة، وبالتالي مموضعة بشكل تام.
وبناء عليه، عوض الحديث عن فلسفة أدبية ينبغي الحديث عن إديولوجيا الأدب : وتمثل هذه الإديولوجيا مجموعة من الملفوظات الكامنة والغفل، السابقة على تدخل الأشكال الشعرية والسردية، والتي تتحكم في كل تحققاتها. تقدم إيديولوجيا من هذا النوع، في صورة تلميحية حتما، ما يظل غير مفكر فيه في الفعل الأدبي، وهو لذلك لا يعتبر أمرا فلسفيا بحصر المعنى. من هنا، لا يمكن أن نتفلسف بشكل حقيقي حينما يتعلق الأمر بالأدب، إلا بالتموقف ضد هذه الإديولوجيا التي تسكنه بصورها الوهمية : ولغاية استئصال هذه الأخيرة، يتم تجريد الأدب من كل حق في التفكير بذاته، بدعوى الحفاظ على جماله النقي.
لكن الفلسفة ليست لاوعي الأدب، الذي يمكن أن يوصل إليه علاج نظري، تقوم فيه الكتابة النصية ذاتها بدور المحلل المواجه للعبة الكبرى للآخر. هذا الآخرالذي يساعده على استرداد هويته المفقودة أو المنسية. ذلك أن الفكر الذي يرافق كل الآثار الأدبية لا يعود إلى وعي خارجي يفشي الأدب بواسطته أسراره، ويصرح في الوقت ذاته بأن هذه الأسرار تستحوذ عليه أكثر مما يمتلكها هو. إلا أن هذا اللاوعي يتطابق مع التفكير الدائم الذي يقوم به الأدب في ذاته لحظـة إنتاجه لنصوصه. فلدى صاد SADE ، كما لدى فلوبير ولدى روسيل ولدى كونو، تحقق الكتابة معنى، وهذا المعنى هو كل شيء ما عدا أن يكون كامنا، حتى وإن تطلب إدراكه قراءة يقظة وعالمة.فهذه الكتابة، وهي تشتغل باللغة مثلما تشتغل بمادة تصاغ انطلاقا منها صورها الخاصة، تبرز شروط الإمكان والحدود التي تعين نظام اللغة ذاته بهدف بلورة تنظير صريح حوله.
وبناء على ذلك، ينبغي البحث عن فلسفة أدبية في الأشكال الأدبية، وليس وراء ما يبدو أنها تقوله، أو في مستوى آخر. وتتمثل هذه الأشكال الأدبية في الفكر الذي ينتجه الأدب وليس ذاك الذي ينتج الأدب دون وعي منه تقريبا. وتبعا لذلك فإن مثل هذا الفكر لا يجب أن يستخلص من هذه الأشكال مثل جسم خارجي يكون بالإمكان التقاطه بواسطة نسق من الملفوظات المتفرقة. فباتباع مسالك التاريخ، من أجل الوصول إلى عمق الأشياء، نصل إلى النقطة التي ينبغي أن يختفي عندها كل شيء، هذه الصيغة التي لخصنا فيها الروح المشتركة للمتن الأدبي الذي خضع لقراءة فلسفية ليست لها أية قيمة، أي دلالة من ذاتها، خارج الأعمال والنصوص التي ترقى بها إلى نوع من الصدق أوالحقيقة، إن المضمون هنا لا قيمة له خارج صور تجلياته : إنه يتطابق مع هذه الأشكال كما تنعكس في الحركة التي تنتجها : يمكن الحديث عن التحام تام >للرسالة< بناقلها.
إن الكتابات الأدبية تنضح بالفكر مثلما تفرز الكبد الصفراء : يمكن أن نتحدث عن إفراز، رشح، سيلان، كل هذه الألفاظ تذكر بعملية متواصلة ومتدرجة، تعد بشكل ماكر من زاوية كيمياء مجهرية داخل الأجزاء الدقيقة للتنظيم النصي، والشبكة الخلوية التي تكونه. إن العصارة التأملية المتراكمَة ببطء تتجمع وتتكثف في مخازن منيعة للدلالة تجعلها غير مرئية لزمن طويل، ثم تتدفق فجأة، بزخم من المقاصد، وسيول الفكر، تجعل ظهورها مفرطا، بل فاحشا. إن هذا التناوب بين الحصر والارتخاء، يضع الفلسفة الأدبية دوما متجاوزة لتعبيرها أو قاصرة عنه. وهو تعبير لا يتخذ أبدا الهيئة المنتظمة لحجاج متزن وعقلاني، ذي تدفق مراقب بصرامة.
يمكن التعبير عن هذا أيضا دون اللجوء إلى استعارات : بما أن الفلسفة الأدبية لا تنفصل عن أشكال الكتابة التي تنتجها فعلا، فهي فكر بدون مفاهيم، لا يتطلب نقله بناء أنساق تأملية تماثل البحث عن الحقيقة بطريقة برهانية. فالنصوص الأدبية هي مركز فكر يعلن عن ذاته دون أن يعطي لها علامات مشروعيته، لأنه يرجع عرضه إلى إخراجه الذاتي، هذا الفكر يخبر عن ذاته (هكذا) بمجانية ساخرة، إنه كل شيء ما عدا أن يكون ساذجا وجاهلا بذاته وبالحدود التي تحكم بداهته. يفتح عمل الكتابة الأدبية للفلسفة، بإنتاجه لمثل هذه الآثار التأملية، آفاقا جديدة، ومجالات بحث كذلك تفلت من الكفاءة المقننة بصرامة لمحترفي الفلسفة. إنه إدراج لجزء من اللعب في ممارسة الفكر، وهو لعب أبعد ما يكون عن إضعاف فحواها التأملي، بل على العكس من ذلك يحفزها على ارتياد دروب غير مرتادة. وهنا يكمن المفعول الفلسفي الخاص للأدب، مفعول يفكك كل الأنساق الفكرية : ومهما قدمت ذاتها مطلقة في البداية، فإن الأدب يزرع بين هذه الأنساق حركة تفكير متعدد الأصوات، مشترك ومتقاسم يصدر أكثر عن تداول حر للصور، والخطاطات القولية والسردية، أكثر منه عن تنظيم استنباطي منسق بشكل صارم.
إن مفعول إزالة الحواجز هذا يؤثر في الأدب ذاته. ذلك أن نسيج هذا الأدب يبدو، منظورا إليه في ضوء الفكر التأملي الكامن فيه، كشبكة فريدة تتعالى على المقاصد الفردية الخاصة >بالمؤلفين< تقوم البلورة الدقيقية بامتصاص مقاصدهم الإيديولوجية ومسخها ، فالمؤلفون لا يفكرون دوما أثناء الكتابة أقل أوأكثر مما يريدونه أو مما يعرفونه. فإذا لم تكن الفلسفة الأدبية هي لاوعي الأدب، فهي ربما لا وعي الأدباء، لأن هذه الفلسفة هي فلسفة بدون فلاسفة، لا تعود إلى هذا أو ذاك المشروع المفرد، المرتبط شخصيا بمبادرة المكتتب (Scripteur) . إن هذا لن يكون له، من هذه الزاوية، أي معنى عند الحديث عن فلسفة هوجو أو فلوبير أو سلين.
إن الفلسفة الأدبية ليست حتى هذا الأساس المشترك الذي تتقاسمه هذه >الأفكار< المعينة من خلال العلاقة النوعية التي تقيمها مع الشخص الذي يرقى بها إلى مستوى الكلام؛ ولكنها الفلسفة التي تخترق مجموع النصوص الأدبية، باعتبار هذه النصوص تكون كلا متنافرا ومتصارعا تكمن مهمته النظرية بالضبط في اعتبار هذه التعددية المتشظية والمتميزة من الأفكار، الملتقطة في حركيتها الموضوعية، المستقلة كما هي عن المؤلفين والأنساق. وهكذا فإن الأدب كما هو الذي يتأمل،من خلال كل ما يقوله الكتاب ويكتبونه، وقد أخذ موقعه ضمن العنصر الفلسفي السابق في الوجود على كل الفلسفات الخاصة.
وعلى هذا الأساس يصبح لزاما على الأدب التعبير عن فلسفية الفلسفة. فما معنى هذا الأمر ؟ يعني ذلك أن علاقة الأدب النوعية بالحقيقة، كما تنشأ في الحركة الحرة لأشكاله ومختلف طرق عرضه، مع بعد المجانية اللعبية التي تميزه، هي بالأساس علاقة نقدية : إنها تتطابق مع إنتاج نوع من المفعول الغريب الذي يقيم في هذا التفكير، في اللحظة ذاتها التي يتأمل فيها الأدب خطاباته الخاصة، مسافة داخلية، تحول دون مماثلتها مع أنساق فكرية محددة ومنغلقة ومنطوية على ذاتها نهائيا. إن الأدب هو مثل فسحة غير مكلفة للفلسفة.
إن جميع النصوص الأدبية، في آخر المطاف، تتخذ كموضوع لها، وهنا تكمن فلسفتها حقا، عدم انتساب اللغة لذاتها، إنه الفارق الذي يفصل دوما بين ما نقوله عما نقوله عن هذا القول وعما نعتقده عنه : إنها تبرز هذا الفراغ وهذه الثغرة الأساسية التي يقوم عليها تأمل يقود إلى التقليل من تجلياتها الخاصة. إن هذه العلاقة الساخرة بالحقيقة، التي تتطلب قبل كل شيء فهما متبصرا، تجعل من الفلسفة الأدبية تجربة فكرية إشكالية أساسا : هذه التجربة تتمثل في إبراز الإشكالات الفلسفية، وفي عرضها، وفي >إعدادها< مثلما ننظم عرضا مسرحيا، متجنبين حلا نهائيا، أو مزعوما كذلك، لهذه الإشكالات، أي تجنب محاولة وضع حد لها، وإلغائها عن طريق استدلالات ما.
بهذه الكيفية، تبرز الفلسفة الأدبية أيضا الرابط الذي يجمع الحقيقة والتاريخ، وسيمثل هذا درسها الأساسي. إن الفكر الاشكالي الذي يخترق جميع النصوص الأدبية هو بمثابة الوعي الفلسفي لعصر تاريخي ما : فما يعتقده هذا العصر أنه يؤول إليه يعود للأدب أمر التعبير عنه. فعهد الأدب من”صاد” إلى “سلين” لا يعكس رسالة إيديولوجية أمام ذاته، تتطلب أن تُصنف كما هي، بالإضافة إلى أنه يبدو، في معناه الضيق، غير منطقي ومتهافت بشكل جلي ولكنه يشكل مع ذلك خطاطة استشرافية لحدوده الذاتية، التي لا تنفصل عن وضعه المستقبلي الذي يُنسبه. فما هي المساهمة الفلسفية للأدب من وجهة النظر هذه ؟ إنه يسمح بإعادة جميع الخطابات الفلسفية، في اشكالها السائدة، من خلال العنصر التاريخي الذي يجعل منها نتائج اتفاقات وظروف وضربة حظ تافهة ورائعة.
الأفكار في الآداب
قد تكون الفلسفة والأدب مثل الوجه والقفا لنفس الخطاب الذي يبدي كل واحد منها عوارضه ونتوءاته تحت مظاهر متناوبة، فما يبدو عند أحدهما في شكل الممتلئ والمتواصل ينكشف عند الآخر كنقص وحذف.
وهكذا فإن مجهود العقلنة الذي يميز التأمل الفلسفي ويضفي عليه تجانسا وثباتا، يترجم عندما يمر بأنماط الحكي الخاصة بالأدب، إلى عرض مبتور وغير منتظم، مما يؤدي إلى ظهور مفعولات الحقيقة، التي تحدثها حركة الأفكار، وكأنها مقلوبة : إنها تنكشف في شكل تلميحات ناقصة، وغير مكتملة ومتشظية، والتي يبدو أن منطق حجاج متماسك قد هجرها نهائيا. وعندما يستعيد التعبير الفلسفي ذاته، نفس هذه الطقوس ليعبر عن ذاته كقصة – لنتذكر الحكايات العجيبة المروية من طرف نيتشه أو من طرف كوجيف Kojève أو يرن مثل الموسيقى كما في الكتابات التي تركها فيتجنشتينWittgenstein ، فإنه يقترب من الظاهرة الجمالية إلى حد يبدو معه أنه يمتزج بها.
إن فلسفة الفلاسفة تمثل غالبا كخطاب يضفي الشرعية، كما لو أنها تصرح أن >كل شيء ينبغي أن يظهر<، ويقتضي أن يفهم باعتباره كذلك. مقابل هذه الأطروحة الأساسية، فإن الفلسفة الأدبية، المقدمة هنا كوعي فلسفي لعصر ما، العصر الذي يمتد تقريبا من 1800 إلى اليوم، تعيد كرجع صدى ساخر هذه الرسالة المتحررة من الوهم، والتي ترن كلازمة متشذرة : الكل ينبغي أن يختفي.
وهكذا نجد أن نفس الاستيهام الهضمي لدى فلوبير أو سيلين يشكل قاعدة لشعرية بأكملها : فالكاتب ” يبلع” كل شيء، إنه يهضم الواقع بمختلف عناصره سواء كانت تشكل حدثا أم لا، ثم يستردها من خلال عملية شبيهة بعمليات الخيمياء وقد فقدت شكلها المادي، وهو ما يمثل شرطا لكي تنتقل الأشياء إلى كلمات. من الأدب ينبثق نور خافت، يرسم حدود فكر مظلم ومزعج ومقلق بشكل مخيف، خاصة عندما يظهر في صيغ لا قيمة لها، أي مسلية ومطمئنة. إن نصوص صاد من هذه الزاوية، هي التي تسمح بإعطاء نصوص ”كونو” كل معناها؛ لأن هذه النصوص جميعها تتحدث عن نهاية التاريخ، من خلال قصص متحفظة ولا نهاية لها. وبنفس الطريقة، فإن كتابات”باطاي” وسلين تدعونا إلى إعادة قراءة ”هوجو” و”فلوبير” : افتتان كرنفالي يجعلهما ينغمسان في بالوعات متماثلة.
لنعد إلى الخطاطات الفكرية التي تم انطلاقا منها ترتيب عرض ”تمارين الفلسفة الأدبية” المطروحة هنا، بطريقة تبين كيف تترابط فيما بينها من خلال ما أسميناه شبكتها المشتركة، دون أن يتخذ بعضها، بالنسبة للبعض ترتيبا عقلانيا بشكل نهائي، يجعل منها عناصر نظرية ما.
فالأدب ما انفك، منذ ما يناهز القرنين على وجوده بحالته هاته، يدور حول عدد من الثيمات، أو الصور الاستحواذية، التي انتظم انطلاقا منها اجتراره النظري : التجاوز والحد، حسب منظور بلاغة عامة (تجسدها هنا نصوص ”صاد” ”فلوبير” و”فوكو”)؛ والعمق، حسب منظور أنطولوجيا سالبة، تنطلق من قلب القيم من الأعلى ومن الأسفل (كما يتم ذلك عند ”هوجو” وعند ”باطاي” وعند ”سلين”)، ثم من خلال الصيرورة حسب منظور أنتروبولوجيا تاريخية ( المطورة من طرف ”السيدة دوستايل و”جورج صاند و كونو ). والحال أنه، بين هذه المنظورات الثلاثة تقوم علاقة ارتباط، عبر نسق كامل من الإحالات، مرتكز أكثر على أساليب القافية الشعرية مع الآثار النوعية للإيقاع (الوزن) والاستباق والاستذكار التي تستدعيها هذه الأساليب، أكثر من ارتكازه على أساليب برهانية تشيد تدريجيا. إن هذه العلاقة المتبادلة هي بالتدقيق ما يسمح للأدب بالتفكير، بشكل يختلف عما يقوم به مذهب عقلي، في القضايا الأساسية لعالم تاريخي.
هكذا، فإن تدمير دير سبيريديون” Spiridion ، في رواية صاند تستبق الحريق الذي يدمر كلية لونا بارك”luna Park ، في “Pierrot mon ami ” ؛ فهل بإمكان كتاب أدب أن ينتهي بشكل آخر غير الكارثة، مع استحضار عالم مدمر، وكأنه ملغوم بفعل تداول الصور التي تسكنه وتحكم عليه بالموت عندما تنتهي >الحكاية< بمعانيها؟ وعلى مستوى أكثر تجريدا، فإن إشكال تواصل الثقافات، الذي يوفر لـ”كورين نسيجها الروائي، يمتد لكي يشمل تفكير صاند حول ثيمات التقليد والبدعة، على امتداد حكاية لها دلالة استئناسية، مثل تلك التي نسجتها مدام دوستايل. ويبدو أن هذا التفكيرسيستمر في مختلف نسخ “إغواء’ القديس أنطوان “التي أعيد تشكيل سيناريوها الأسطوري من طرف ”صاند”. على الرغم من أنه يبدو كأنه يجري بعيدا في الزمان والمكان، فإنه يمكن أن يعبر العالم التاريخي والخيالي في آن واحد، وبالمثل ألا نرى بعض مشاهد “المائة وعشرين يوما”Les cent Vingt journées لصاحبها صاد تتوالي تحت النظر المذعور لـ بطل فلوبير، أو تحدث في أكواخ “البؤساء” “Les Misérables” في أطراف المدينة، حيث تظهر من الظل شخصيات تقوم أيضا ”بسفر” محفوف بالمخاطر، يقودها إلى >نهاية الليل<؟
نجد لدى صاد” و مدام دوستايل وصاند” ، كما لدى هوجو و كونو، عناصر فكر تاريخي اجتماعي يتحكم مباشرة في وضع بنيات سردية، حتى وإن كانت هذه العناصر تحضر في شكل مقتطفات : هذا الفكر هو الذي يحكم اقتصاد المائة وعشرين يوما، بحيث تكون المعرفة والسلطة خاضعتين لقانون سرد منظم بشكل اطرادي، ويسمح أيضا برسم طبع “كورين” “Corinne” التي يبدوأنها تجسد في صورة ملموسة مفهوم علاقة ثقافية ما؛ ويعطي لسرسبيردييون” مضمونا، يهم في نهاية الأمر الإنسانية جمعاء! ويدفع ”جان فالجون” إلى مغامرة استكشافه لـ” عالم جهنم”، ومن ثم تبرز عادات قيم المجتمع مرفوضة ومتجددة في نفس الآن؛ كما يمنح ترتيبا جدليا للأرض التي تحدث فيها مغامرات “بييرو”، شخصية من شخصيات كونو، تعيش تجرية التوترات الناتجة عن مواجهة بين عالم أرضي وآخر سماوي. وتجد هذه الحركة التناوبية الأخيرة نوعا من التفسير في الصور التي شرحتها الكتابات الأولى ”لباطاي”، حيث يتحول المنطق المتعارض للعلوي والسفلي إلى دعامة لشعرية تمثل أيضا اقتصادا معمما، تتواصل من خلاله كافة قوى الكون في تناثرها.
كل هذه الأفكار، المجسدة في صور، و الممثلة في حركة الآداب التي تستدعيها، لا تعود إلى نقل رسالة تأملية مبهمة، يمكن أن يكون فحواها إيديولوجيا خالصا، فالبلاغة الأدبية لا تعود، شريطة أن تكون مكتملة بشكل صارم، إلى إيديولوجيا عصر معين ولا معارضة هذه الإيديولوجيا في ذاتها وبفصلها عن ذاتها، وذلك بإبراز نزاعاتها الداخلية، وبالتالي نقدها، ولنقل إن البلاغة، في النهاية، تبتلع الإيديولوجيا، لكي لا” تعيدها” إلا في صورة تضحي معها فاقدة للمعالم. حينها تكف عن الإثارة أو حتى السعي إلى انخراط مباشر. ومن وجهة النظر هاته، فإن روسيل و سلين مثلهما مثل ملارميه”، يجسدون ما هو مطلق في فعل الكتابة، ذلك الفعل الذي يجرد الواقع من ماديته. ويمنح في الوقت ذاته، الأفكار، التي يوحي بها عالم اكتسحته الحوادث والكلمات، هالة شبحية لا تصدق ولا سندلها، قوية وتافهة خرقاء وآثمة في آن واحد.
يبدو أن الأدب، من ”صاد” إلى ”سلين” قد انقطع لعرض كل ما لا ينبغي قوله عن العالم الذي نحيا فيه، إن الأدب يقدم لنا عنه صورا مواربة ومشوهة، بذيئة وفاسدة نهائيا، كما لو أن هذه الصور تكونت في مرآة مكسرة، حيث يولد العالم ثانية في صورة] أكثر حقيقة مما هو عليه] في الطبيعة؛ في النور الشديد القسوة والوقع الذي تسلطه عليه حقيقة أسلوب ما، لأن العالم لن يكون حقيقيا أكثر إن لم يعبر عن ذاته أيضا في الكتب.
* مفتش الفلسفة – الدار البيضاء
المصدر : https://alamat.saidbengrad.net/?p=7078